ومن أمثلتها في الكتاب العزيز قوله تعالى: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها) . الذهول: الذهاب عن الأمر بدهشة. والمرضعة, هي التي ألقمت ثديها الصبي. والمرضع - بغير هاء - هي التي من شانها أن ترضع. والمعنى أن هول القيامة إذا فاجأها وقد ألقمت الصبي ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة عن الذي أرضعته.
وعن الحسن, تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام, وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. فالذهول والوضع المذكوران مبالغة في وصف يوم القيامة بالشدة وهما ممكنان, ووصف يوم القيامة في شدة الهول إلى هذا الحد أمر ممكن عقلا وعادة, وهي عادة مبالغة مستحسنة.
ومن أمثلتها في الشعر قول امرئ القيس:
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكا فلم ينضح بماء فيغسل
العداء بالكسر والمد: الموالاة بين الصيدين, يصرع أحدهما على أثر الآخر في طلق واحد.
يقول: عاديت بين الصيدين, أي صدتهما في شوط واحد للفرس. واراد بالثور الذكر من بقر الوحش, وبالنعجة الأنثى منها. والدرك بالكسر: المتتابع, وهو صفة لعداء في البيت. ويغسل مجزوم معطوف على ينضح, أي لم يعرف فلم يغسل. ادعى أن هذا الفرس أدرك ثورا وبقرة وحشيين في مضمار واحد ولم يعرق. وهذا أمر ممكن عقلا وعادة.
ومثله قول أبي الطيب المتنبي:
وأصرع أي وحش قفَّيته به ... وانزل عنه مثله حين أركب
وقال ابن أبي الأصبع: أبلغ شعر سمعته في باب المبالغة قول شاعر الحماسة, إذ بالغ في مدح ممدوحه فقال:
رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد
ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكن مالا يستطاع شديد
فانظر ما أحلى احتراسه عن ذلك بقوله (وما فوق شكري للشكور مزيد) . وانظر كيف أظهر عذره في عجزه مع قدرته بأن قال في البيت الثاني (ولو كان مما يستطاع استطعته) ثم اخرج بقية بيت المبالغة مخرج المثل السائر حيث قال (ولكن ما لا يستطاع شديد) .
ومن هنا قال أبو نواس:
لا تسدين إلي عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
قلت: ومثل هذين البيتين في حسن مبالغتهما وبديع لفظهما ومعناهما قول الآخر:
وكم لك نعمى لو تصدى لشكرها ... لسان معد لاعتراه كلول
أكلف نفسي أن أقابل عفوها ... بجهدي وهل يجزي الكثير قليل
ومن المبالغة المجازية قول نصيب في هشام. قيل: دخل نصيب بن رباح على هشام بن عبد الملك فأنشده:
إذا استبق الناس العلى سبقتهم ... يمينك عفوا ثم صلت شمالكا
فقال له هشام: بلغت غاية المدح فسلني, فقال: يا أمير المؤمنين يداك. بالعطية أطلق من لساني بالمسألة, فقال: لابد أن تفعل, قال: لي ابنة نفضت عليها من سوادي فأكسدها, فلو نفقها أمير المؤمنين بشيء يجعله لها. فأقطعها أرضا وأمر بحلي وكسوة, فنفقت السوداء.
ومن المبالغة المستجادة قول مسلم بن الوليد في الخمر:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت بنا مشي المقيد في الوحل
حكي أن الرشيد لما ظفر بمسلم بن الوليد وكان قد رمي عند بالتشيع رق عليه, وعفا عنه, ثم قال له. أنشدني أشعر شعر لك. فكلما بدأ بقصيدة قال: لا, التي يقول فيها: الوحل, فإني رويتها وأنا صغير, حتى انتهى إلى قوله:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت بنا مشي المقيد في الوحل
فضحك هارون وقال: أما رضيت أن قيدته حتى جعلته يمشي في الوحل؟ انتهى.
وهذا الذي قصده قدامة في حده للمبالغة حيث قال: هي أن يذكر المتكلم حالا من الأحوال لو وقف عندها لا جزأت, فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره أبلغ من معنى قصده. انتهى.
غير أن هذا الحد للمبالغة بالمعنى الشامل للإغراق, والغلو, والتبليغ. لا للتبليغ وحده كما توهمه ابن حجة. ويدلك على ذلك إنه مثل لها بما مثل من غير للإغراق وهو:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا
فإن دعوى أن جاره لا يميل عنه إلى جانب, إلا وهو يرسل الكرامة والعطاء على أثره, أمر يمكن عقلا لا عادة, فهو إغراق لا تبليغ. والمبالغة في الشعر أكثر من أن يوقف لها على آخر.
ولقد تصفحت ديوان حسان بعد سماع قوله:
وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
فرأيت أكثر شعره مبنيا على المبالغة, كقوله في الغزل: