فقالت: ضعفت افتخارك وانزرته في ثمانية مواضع في بيتك هذا, قال وكيف؟ قالت: قلت (الجفنات) والجفنات ما دون الشعر, ولو قلت الجفان لكان أكثر. وقلت (الغر) والغرة بياض يكون في الجبهة, ولو قلت: البيض لكان أكثر اتساعا. وقلت (يلمعن) واللمع شيء يأتي بعد شيء, ولو قلت: يشرقن لكان أكثر, لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت (بالضحى) ولو قلت: بالدجى لكان أكثر إشراقا. وقلت (وأسيافنا) والأسياف دون العشر ولو قلت: سيوفنا كان أكثر. وقلت: يقطرن, ولو قلت: يسلن كان أكثر. وقلت من نجدة, والنجدات أكثر. وقلت: دما والدماء أكثر من الدم. فلم يجر جوابا. انتهى.
وأجيب, أولا بأن حسان لا يرى حسن المبالغة, كما صرح به في شعره بالسابق, مع تسليمه فالجواب: عن الأول, بأن جمع القلة قد يستعمل في الكثرة,, وهنا كذلك كقوله تعالى (وهم في الغرفات آمنون) مع أن في الجنة غرفا كثيرة, والقرينة وصف الجفنات بالغر, وهي جمع كثرة.
وعن الثاني, بأن الغر هنا ليس جمع غرة كما نقد, وإنما الغرِ: البيض المشرقات من كثرة الشحوم وبياض اللحوم, وهي جمع غراء وهي البيضاء.
وعن الثالث, بأن اللمعان هو المستعمل في هذا النحو الذي يدل به على البياض كما تقول: لمع السراب, ولمع البرق.
وعن الرابع, بأن الذي يلمع في الضحى أشد نورا, فإن قليل النور يضمحل في ضوء الشمس, ولذلك ترى كثيرا من الأشياء المشرقة النيرة يلمع ليلا ولا يلمع نهارا, كعيون بعض السباع, وخاصة الضبع, فإن عينيه ترى في الليل كأنها جمرة تتقد, ولا ترى في النهار كذلك؛ وما ذلك إلا لضعف نورها وغلبه نور الشمس عليها. فكلما يلمع نهارا يلمع ليلا ولا عكس.
وعن الخامس, بما أجيب به عن الأول.
وعن السادس, بأنه تبع فيه الاستعمال في مثل هذا المقام. فإن العرب يقولون في وصف الشجاع: سيفه يقطر دما, ولم تجر العادة بأن يقال: سيفه يسيل دما, أو يجري دما. مع أن يقطر أمدح, لأنه يدل على مضاء السيف, وسرعة خروجه عن الضريبة, حتى لا يكاد يعلق به دم, ولو علق إنما يعلق شيء يسير, بحيث يقطر ولا يسيل, وكثرة الدم على السيف تدل على ثقل حركة الضارب وضعف ساعده. ومن هذا يظهر الجواب الثامن أيضاً.
وعن السابع, أن للتنكير في قوله: من نجدة, للتعظيم, فالمبالغة موجودة.
وعن الثامن, ما تقدم في جواب السادس والله وأعلم.
وقال جماعة من المحققين: إن المذهب المرضي في المبالغة أنه أن أريد بها ادعاء بلوغ وصف في الشدة والضعف حدا مستبدا, ممكنا عقلا وعادة, فهي من المحسنات المقبولة بل المطلوبة, وسماها بعضهم حينئذ: التبليغ, وابن المعتز: الإفراط في الصفة. وأن أريد بها ما يشتمل التبليغ والإغراق والغلو (كما في التلخيص والإيضاح) انقسمت باعتبار أقسامها المذكورة إلى مقبولة ومردودة. فالتبليغ والإغراق مبالغتان مقبولتان, والغلو أن أفضى إلى الكفر أو قاربه كان مبالغة مردودة وإلا فمقبولة, والفرق بين الثلاثة أن المدعي للوصف في الشدة أو الضعف إن كان ممكنا عقلا أو عادة فهو التبليغ كما عرفت, وإن كان ممكنا عقلا لا عادة فهو الإغراق, وإن لم يكن ممكنا لا عقلا ولا عادة فهو الغلو.
وقال بعض المتأخرين - وهو القول الأمم والمذهب الأقوم -: الحق أن فضل المبالغة لا ينكر لوقوعها في القرآن الكريم, ومنها جميع أبواب التشبيه والاستعارة والكناية, وقد استكثر منها حسان وإضرابه من مرجحي جانب الصدق, لكن لا تنحصر الإجادة فيها فقد رأينا الصدق المحض كثيرا في غاية الحسن ونهاية الجودة.
كقول زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقول الآخر:
وأكرم أخلاق يدل بها الفتى ... عفاف مشوق حين يخلو بشائق
ورأينا كثيرا من المبالغة لا يرضاها ذو طبع سليم كقول ابن الحجاج:
وراحة لو صفعت حاتما ... علمت الجود قفا حاتم
وعلم من ذلك أن المردود من المبالغة غير منحصر في الغلو المفضي إلى الكفر. انتهى.
وهو كما تراه كلام من الحسن بمحل, ثم ليس المراد المبالغة هنا إلا التبليغ, وأما الإغراق والغلو فسيأتي الكلام على كل منها مستوفى في محله إنشاء الله تعالى.