فاتفق أن جاء إلى زيارتي ذلك اليوم الذي نظمت فيه هذا البيت شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي وذلك قبل الاشتغال عليه، فأنشدته البيت فقال: هذا الصدر صدر بيت للصاحب بن عباد، قاله لما ولد سبطه أبو الحسن عباد بن علي الحسني وهو:
الحمد لله حمدا دائما أبدا ... إذا صار سبط رسول الله لي ولدا.
فحلفت له أني لم أسمع به فقال: اعلم ذلك، وهذا من نوع المواردة. ثم لما وصلت غلى هذا النوع من البديعية احتجت إلى إيراده شاهدا عليه فأوردته والله أعلم.
ولم ينظم سوى من ذكرناه من أصحاب البديعيات هذا النوع، ولعله لم يتفق لهم والله أعلم.
[الالتزام.]
إن التزامي في ديني بجدهم ... ما زال يفعم قلبي صدق ودهم.
هذا النوع كما يسمى الالتزام يسمى لزوم ما لا يلزم، وسماه قوم الأعنات من العنت وهو المشقة، وآخرون التضييق، وبعضهم التشديد، وهو عبارة عن أن يلتزم المتكلم في النثر أو الشعر حرفا أو حرفين فصاعدا قبل الروي، بشرط عدم الكفلة، كقوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر) ، وقوله: (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) ، وقوله: (في سدر مخضود وطلح منضود) ، وقوله: (والطور وكتاب مسطور) ، وقوله: (بلغت التراقي وقيل من راق) وهو في الكتاب العزيز كثير.
ومثاله من الشعر قول امرئ القيس وقد نظر إلى قبر امرأة من بنات الروم بأنقرة وهو يجود بنفسه فقال:
أجارتنا إن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقام عسيب.
أجارتنا أنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب.
وقول العباس بن الأحنف:
الله يعلم ما تركي زيارتكم ... إلا مخافة أعدائي وحراسي.
لو قدرت على الإتيان جئتكم ... سحبا على الوجه أو مشيا على الرأس.
قال ابن جريح: ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى سمعت وأنا باليمن منشدا ينشد قوله:
بالله قولي له في غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن.
إن كنت حاولت دنيا أو رضيا بها ... فما أصبت من ترك الحج من ثمن.
فحركني ذلك على الخروج إلى مكة، فخرجت مع الحجاج، وحججت.
وقال اسحق الموصلي: أنشدت الأصمعي- على أنه لشاعر قديم:
هل إلى نظرة إليك سبيل ... فيروى الصدى ويشفى الغليل.
غن ما قل منه يكثر عندي=وكثير من الخليل القليل.
فقال: هذا والله الديباج الخزرواني، فقلت: هو ابن ليلة، فقال: لا جرم أثر التوليد فيه، فقلت: لا جرم أثر الحسد فيك.
قال الصولي: كان اسحق يظن أن لم يسبق إلى هذا المعنى، حتى أنشد الأعرابي:
أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل.
فحلفت أنه ما كان سمعه.
ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي:
ومن يطلب المعروف من غير أهله ... يجد مطلب المعروف غير يسير.
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة=من الذم سار الذم كل مسير.
وقول السيد البطليوسي:
ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت أم في الجو روض بهار.
كأن الليالي السبع في الليل جمعت ... ولا فصل فيما بينها لنهار.
وقول بعضهم:
بدا فكأنما قمر ... على أزراره طلعا.
بفت المسك عن طرر ال ... جبين بنانه ولعا.
وقد خلعت عليه الرا ... ح من أصوابها خلعا.
وقول الوأواء الدمشقي:
وزائر راع كل الناس منظره ... أحلى من الأمن عند الخائف الوجل.
ألقى على الليل جنحا من ذوائبه ... فهابه الصبح أن يبدو من الخجل
أراد بالهجر قتلي فاستجرت به ... فاستل بالوصل روحي من يدي أجلي.
وقول الحسن بن علي الواسطي:
براني الهوى بري المدى وأذابني ... صدودك حتى صرت أنحل من أمس.
فلست أرى حتى أراك وإنما ... يبين هباء الذر في أفق الشمس.
وقول أبي إسحاق الصابي:
ولما تعذر أن نلتقي ... وطال النزاع وزاد الألم.
مشيت إليكم برجل الرسول ... وخاطبتكم بلسان القلم.
وألف الشيخ أبو العلاء المعري كتابا سماه لزوم ما لا يلزم، ولكن جمع فيه بين الغث والسمين وقرن بين الرخيص والثمين، فمنه قوله:
دنياك غانية إذا عاهدتها ... غدرت فكيف تروم حسن وفائها.
لم تصف قط لعاقل فكأنما ... عبرت عن فقد النهى بصفائها.