ففي صرفه (سلمى) وتسكينه آخر الفعل الماضي ما يغني عن الكلام على بقية ما فيه. ومن كان هذا مبلغه من النحو فالسكوت أولى به ولا نطول بذكر جميع هذه البديعية. فالمطلع يدل على ما بعده. وما كان الغرض من إثباته إلا إقامة البينة على ما ذكره، وليس المقصود بهذا كله تتبع العثرات والعياذ بالله، بل تنبيه الطالب على اجتناب الوقوع في مثل ذلك. ومن لم يستطع شيئاً فليدعه كما قيل:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
ولنقتصر على هذا المجال من الكلام على حسن الابتداء وبراعة الاستهلال.
[الجناس المركب والمطلق]
دعي وعجبي وعج بي بالرسوم ودع ... مركب الجهل واعقل مطلق الرسم
الجناس والتجنيس والمجانسة والتجانس: كلها ألفاظ مشتقة من الجنس. فالجناس مصدر جانس، والتجنيس تفعيل من الجنس، والمجانسة مفاعلة منه. لأن إحدى الكلمتين إذا شابهت الأخرى وقع بينهما مفاعلة الجنسية، والتجانس مصدر تجانس الشيئان: إذا دخلا تحت جنس واحد.
وحكي عن الخليل: بهذا يجانس هذا أي يشاكله، ونص عليه في التهذيب أيضاً. قال الجوهري في الصحاح: زعم ابن دريد: إن الأصمعي كان يدفع قول العامة: هذا مجانس لهذا، ويقول: إنه مولد، وكذا في ذيل الفصيح للموفق البغدادي. قال الأصمعي: قول الناس: المجانسة والتجنيس، مولد وليس من كلام العرب، ورده صاحب القاموس: بأن الأصمعي واضع كتاب الأجناس في اللغة، وهو أول من جاء بهذا اللقب.
وحد الجناس في الاصطلاح: تشابه الكلمتين في اللفظ، أي في التلفظ. قال في سر الصناعة: ولم أر من ذكر فائدته، وخطر لي أنها الميل إلى الإصغاء إليه. فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلاً وإصغاء إليها. ولأن اللفظ المذكور إذا حمل على معنى، ثم جاء والمراد به معنى آخر، كان للنفس تشوق إليه. انتهى. والعبارة الثانية قاصرة عن بعض أنواع الجناس قاله في عروس الأفراح.
وهو أنواع، وجملة ما ذكره الشيخ صفي الدين في بديعيته منها اثنا عشر نوعا. ومنهم من زاد، ومنهم من نقص؛ ونحن ذكرنا ما ذكره الصفي؛ ورتتناه حسبما رتبه.
فمن أنواعه الجناس المركب والجناس المطلق: أما الجناس المركب - فهو ما تماثل ركناه وكان أحدهما كلمة مفردة والآخر مركباً من كلمتين فصاعداً، وهو على ثلاثة أنواع، أحدهما: الجناس المقرون. ويسمى المتشابه، وهو ما اتفق ركناه لفظاً وخطا، كقول أبي الفتح البستي:
إذا ملك لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذا هبه
وقول أبي جعفر الاسكافي:
فرشت لشيبي أجل البساط ... فلم يستطب مجلساً غير رأسي
فقلت لنفسي لا تنكريه=فكم للمشيب كراسي كراسي وقول أبي حفص عمر الحاكم المطوعي:
يا خادماً يملك مني خادما ... قد صير الدنيا علي خاتما
كم من دما صب صببت ظالما ... أخادما أصبحت أم أخادما
وقوله أيضاً:
ألا يا سيدا خلقت يداه ... لثروة معدمٍ أو يسرعان
مضى العسر الذي قاسيت فاعدل=إلى يسرين نحوك يسرعان
عسى ما عسى من عود شملي يكتسي ... بعودهم بعد التسلب أوراقا
فلم يصف لي من بعد قط مورد ... ولا لذلي عيش وإن طاب أوراقا
ومنه قول الحصري:
رب سهل على فتاتي فتاتي ... لترى هل سلافتاها فتاها
علمته جفونها آي سحر ... ما تلاها في حبها مذ تلاها
وقول شمسويه البصيري:
ناظراه بما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أو دعاني
وقولي في مطلع قصيدة مناجاة:
قف طالبا فضل الإله وسائلاً ... واجعل فواضله إليه وسائلا
وقولي أيضاً في مطلع أخرى:
تراءت سليمى وهي كالبدر أو أسنى ... فضاء فضاءُ الربع من ضوئها وهنا
وقول الآخر:
بعدت وقد أضرمت ما بين أضلعي ... ببعدك ناراً حشو قلبي وقودها
وكلفت نفسي قطع بيداء لوعة ... تكل بها هوج المطي وقودها
وقول الآخر:
صلوا مغرماً من أجلكم واصل الضنا ... وفي حبكم طيب الرقاد فقد فقد
أثار الهوى نارا تشب بقلبه ... ومن لي بإطفاء الغرام وقد وقد
وقول الآخر:
قلت لبدر التم لما غدا ... معتجبا من حسن أوصافه
إن شئت أن تسرق من حسنه ... فلذ به يا بدر أوصافه
وقول الآخر: