للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فألحق الجزء بالكلي منحصرا ... إذ دينه الجنس للأديان كلهم

هذا البيت ليس فيه من هذا النوع إلا الإشارة إلى اسمه في صدر البيت, وأما المعنى الذي تقرر له فلم يسلم به. ولا يخفى ما في النصف الأخير من المحذور معنى ولفظا.

وبيت البديعية ابن حجة قوله:

ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم

أطنب ابن حجة على جاري عادته في الإعجاب بكلام نفسه في وصف هذا البيت, حتى قال: وما أعلم له في هذا الباب نظيرا لتحرير هذا النوع الذي يدق عن أفهام كثيرة إيضاحه.

ومن تأمل تعريف هذا النوع الذي قرره له مخترعه زكي الدين بن أبي الأصبع, علم أن بيت ابن حجة ليس فيه جعل الجزئي كليا بوجه, فضلا عن حصر أقسام الجزئي, نعم لو قال مثلا: نبي هو الأنبياء, كما قال السلامي: ملك هو الورى, وكما قال الصفي: شخص هو العالم, كان قد جعل الجزئي كليا بالمعنى المذكور. وأما قوله (ألحق بحصر جميع الأنبياء به) فلا يدل على هذا المعنى, بل مدلوله: انك اجعل جميع الأنبياء مثله, أو أتبعهم إياه ليلحقوا به, من قولك: ألحقت هذا بهذا, أي جعلته مثله وفي رتبته. ومنه إلحاق الجزئي بالكلي أي جعله كليا, أو من ألحقت زيدا بعمرو أي أتبعته إياه فلحق, وليس في هذا ما يدل على المقصود من هذا النوع والله أعلم.

وبيت الطبري قوله:

جزئي هو العالم الكلي في رتب ... عليا فما فوقها مرقى لمستنم

وصفه صلى الله عليه وآله وسلم بالجزئي لا يخفى قبحه, وإن كان قد جعله كليا, على أنه قد فاته نصف الاسم من هذا النوع.

وبيت بديعيتي هو:

هو العوالم عن حصر بأجمعها ... وملحق الجزء بالكلي في العظم

وبيت المقري قوله:

فرد أتى سابقا وهو الورى معه ... آي هي الدين والدنيا لمعتصم

قال ناظمه في شرحه: وصف الممدوح بأنه فرد, ثم قال: وهو الورى معه آي, ثم قال: هي الدين والدنيا, فالحق الجزئي بالكلي بوصفين, بعد أن حصرهما. انتهى.

وأقول: أما إلحاق الجزئي بالكلي فمسلم, وأما حصرهما فممنوع, إذ المراد بحصر الجزئي في هذا النوع حصر الأقسام والأنواع فيه, وأين هذا المعنى في البيت؟.

[التهذيب والتأديب]

تهذيب فطرته أغناه عن أدب ... في القول والفعل والأخلاق والشيم

هذا النوع ليس له شاهد يخصه وإن كان من مستحسنات البديع, لأنه وصف يعم كل كلام مهذب محرر لفظيا كان أو نثرا, وهو عبارة عن تهذيب المتكلم كلامه, وتنقيحه ومراجعته بالنظر والفكر فيه, فيسقط ما يجب إسقاطه, ويصلح ما يتعين إصلاحه, ويحرر مقاصده ومباينه, ويبين أغراضه ومعانيه, بحيث لا يمكن أن يقال فيه: لو كان غير هذا لكان أحسن, ولو زيد هذا لكان يستحسن, ولو قدم هذا لكان أجمل, ولو ترك هذا لكان أفضل.

وقلما راجع الإنسان كلاما قاله إلا وعنت له هذه المقالة, كما قيل:

ما خط كف امرء شيئاً وراجعه ... إلا وعن له تبديل ما فيه

وقال ذاك كذا أولى وذاك كذا ... وهكذا إن يكن تسمو قوافيه

فإذا سلم البيت من لو, وليت, عد من مستحسنات البديع, وشمله حد التهذيب والتأديب, وإلا فهو خارج عما نحن فيه, مردود على من خرج من فيه.

وكان زهير بن أبي سلمى يضرب به المثل في تنقيح الشعر وتهذيبه, فيقال: حوليات زهير, لأنه كان يعمل القصيدة في ليلة, ثم تبقى حولا ينقحها.

وقيل: بل كان ينظمها في شهر وينقحها في أحد عشر شهرا. وقيل: بل كان ينظمها في أربعة أشهر وينقحها في أربعة أشهر, ويعرضها على علماء أصحابه أربعة أشهر, ولهذا كان عمر بن الخطاب يعتقد أنه شاعر الشعراء.

روي عن ابن عباس أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب سنة ست عشرة إذ خرج إلى الشام, وهي أول خرجة, حتى إذا كنا باشراف الشام -ولم يكن علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه خرج معه- فصلى المغرب, ثم بيت حتى صلى العشاء الآخرة, ثم وثب حتى ركبت, وأخذ كل إنسان زميله ومحدثه, وأخذت معه, فسار شيئا لا يتكلم, ثم رفع سوطه وقرع به وبسط رجله, ثم رفع صوته يتغنى بشعر أنس بن زنيم الدئلي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم.

وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد

حتى أتى على الشعر, ثم قال: استغفر الله, وسكت هينهة لا يتكلم, ثم قرع وبسط رجله واندفع يتغنى بشعر أبي طالب:

<<  <   >  >>