وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
حتى أتى على الأبيات, ثم قال: استغفر الله, هيه يا بن عباس, ما منع عليا أن يخرج في هذه الغزاة؟ قلت: أو لم تبعث إليه فجاءك وذكر عذره لك؟ قال: بلى, قلت: فهو ما أعتذر به, فقال: يا بن عباس, أبوك عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت: بخ بخ, ما منع قومكم منكم؟ قلت: لا أدري, قال: إنهم يكرهون ولايتكم, قلت: ولم يكرهون ذلك؟ فوا لله ما زلنا لهم كالخير, قال: اللهم غفرا, يكرهون أن تكون النبوة والخلافة فيكم فتكونون خفجا خفجا. لعلكم تقولون: إن أبا بكر فعل بنا ذلك, والله ما قصده, ولكنه حضره أمر لم يكن بحضرته أحزم منه, ولو جعل لكم من الأمر نصيبا لما هناكم مع قومكم.
يابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء, قلت: من هو؟ قال: ألا تعرفه؟ قلت لا, قال: هو ابن أبي سلمى, قلت: يا أمير المؤمنين, فكيف صار شاعر الشعراء؟ قال لأنه لا يتبع حوشي الكلام, ولا يعاظل بين المنطق, ولا يقول إلا ما يعرف, ولا يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال, أو ليس الذي يقول:
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية ... إلى المجد من يسبق إليها يسود
سبقت إليها كل طلق مبرز ... سبوق إلى الغايات غير مجلد
كفضل جواد الخيل يسبق عفوه الس ... راع وإن يجهد ويجهدن يبعد
أنشدني له, فأنشدته حتى برق النور, ثم قال: حسبكن اقرأ علي, قلت: ما أقرأ؟ قال: اقرأ إذا وقعت الواقعة, فقرأتها.
وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المحكك, اقتداء بمذهب زهير.
وروى الحطيئة أن أبا العتاهية لقي يوما أبا نواس فقال له: كم تعمل في اليوم من الشعر؟ قال: البيت والبيتين, فقال أبو العتاهية: لكني أعمل المائة والمائتين, فقال أبو نواس: لأنك تعمل مثل قولك:
يا عتب مالي ولك ... يا ليتني لم أرك
مللكتني فانتهك ... ما شئت أن تنتهك
ولو أردت مثل هذا لعملت الألف والألفين, ولكني أعمل مثل قولي:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو منها مسها حجر مسته سراء
من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان لوطي وزناء
ولو أردت مثل هذا لأعجزك الدهر ومثل هذا الحكاية, ما يحكى أنه اجتمع مع مسلم بن الوليد, فجرى بينهما كلام, فقال مسلم, لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك:
الحمد والنعمة لك ... والملك لا شريك لك
لبيك إن الملك لك
لقلت في اليوم عشرة آلاف بيت, لكني أقول:
موف على رهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلا يأتي على مهل
يكسو السيوف نفوس الناكثين به ... ويجعل الروس تيجان القنا الذبل
وقال عدي بن الرفاع في تهذيبه لشعره:
وقصيدة قد بت أجمع بيتها ... حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها
وتبيت حتى ما أسائل عالما ... عن حرف واحدة لكي أزدادها
وقال أبو تمام:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب
وقال ابن عنين:
معنى بديع وألفاظ منقحة ... عن نية وقواف كلها نخب
وما أحسن ما قال أبو محمد يحيى بن علي المنجم:
رب شعر نقدته مثلما ين ... قد رأس الصيارف الدينارا
ثم أرسلته فكانت معاني ... هـ وألفاظه معا أبكارا
لو تأنى لقالة الشعر ما أس ... قط منه حلوا به الأشعارا
إن خير الكلام ما يستعير ال ... ناس منه ولم يكن مستعارا
ولله الآخر حيث يقول:
لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغت في تهذيبها
فإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه منك وساوسا تهذي بها
قيل لبشار بن برد: بم فقت أهل عصرك, وسبقت أهل أندادك في دهرك, في حسن معاني الشعر, وتهذيب ألفاظه؟ فقال: لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي, وتناجيني به طبيعتي, وتبعثه فكرتي. ونظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق, ولطائف التشبيهات فصرت إليها بفهم جيد, وغريزة قوية فأبحت سرها, وانتقيت حرها, وكشفت عن حقائقها, واحترزت عن متكلفها, لا والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما آتي به.