للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا نوع من البيع غريب المعنى؛ لطيف المبنى؛ راجح الوزن في معيار البلاغة، مفرغ الحسن في قالب الصياغة، وهو الأسلوب الحكيم رضيعا لبان، فرسا رهان؛ حتى زعم بعضهم أن أحدهما عين الأخر، وليس كذلك، بل بينهما فرق كما سنبينه فيما بعد، مع مشيئة الله تعالى.

ولهم في تعريف هذا النوع عبارات مختلفة، فقال ابن أبي الأصبع: انه عبارة أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام أخر، فيعمد المخاطب إلى كلمة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظها ما يوجب عكس معنى المتكلم، وذلك عين القول بالموجب، لأن حقيقته، رد الخصم كلام خصمه من فحوى كلامه. وقال بعضهم: هو أن تخصص الصفة بعد أن كان ظاهرها العموم، أ, تقول بالصفة الموجبة للحكم، ولكت تثبتها لغير من أثبتها المتكلم. انتهى.

قال في عروس الأفراح: وهو قريب من القول بالموجب المذكور في الأصول والجدل، وهو تسليم الليل مع بقاء النزاع. انتهى.

وقسمه الخطيب في التلخيص؛ والإيضاح؛ إلى ضربين؛ أحدهما- أن تقع صفة في كلام الغير؛ كناية عن شيء أثبت له الحكم؛ فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء؛ من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم له وانتفائه عنه، كقوله: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن إلا عز منها إلا ذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) . فأنهم كنوا بالأعز عن فريقهم، وبالإذل عن فريق المؤمنين، وأثبتوا للأعز الإخراج، فأثبت الله سبحانه وتعالى في الرد عليهم صفة العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ من غير تعرض لثبوت الإخراج للموصوفين بصفة العزة؛ ولا لنفيه عنهم.

والثاني- حمل كلام وقع في كلام الغير على خلاف مراده؛ مما يتحمله بذكر متعلقه.

كقوله:

قد ثقلت إذا أتيت مرارا ... قال ثقلت كاهلي بالأيادي.

قلت طولت قال لا بل تطول ... ت وأبرمت قلت حبل ودادي.

والاستشهاد بقوله: (ثقلت) و (أبرمت) دون قوله: (طولت) .

ومنه قول القاضي الأرجاني:

غالطتني إذا كست جسمي الضنا ... كسوة أعرت من اللحم العظاما.

ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما.

انتهى كلام الخطيب في الإيضاح.

قال الحافظ السيوطي: ولم أرى من أورد لهذا الضرب مثالا من القرآن وقد ظفرت بآية منه، وهي قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل إذن خير لكم) . انتهى.

وسبقه إلى ذلك الطيبي في التبيان، فقال بعد تلاوة الآية: كأنه قيل نعم، هو أذن ولكن نعم الأذن، أي هو أذن ما قلتم، إلا أنه أذن خير لا أذن سوء؛ فسلم لهم قولهم فيهم؛ إلا أنه فسره بما هو مدح له، وإن كان قصدوا به المذمة، ولا شيء أبلغ في الرد من هذا الأسلوب، لأن فيه إطماعا في الموافقة، وكرا إلى إجابتهم في الإبطال، وهو كالقول في بالموجب في الأصول. انتهى.

والأذن: الرجل الذي يصدق كل ما سمع، ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع، كأن جملته أذن سامعة.

قلت: وهذا الضرب الثاني من هذا النوع، هو الذي نظمه أرباب البديعيات وتداوله أهل الأدب؛ وحذاق البديع أخلوا هذا النوع من لفظه (لكن) وخصوا بها نوع الاستدراك، ليحصل الفرق بينهما.

ومن عجيب هذا النوع؛ ما حكاه الشريف المرتضى علم الهدى في الغرر والدرر، قال: روي أنه لما نزل خالد بن الوليد على الحيرة، وتحن منه أهلها، أرسل إليهم أن بعثوا إلي رجلا من عقلائهم، وذوي أنسابكم، فبعثوا إليه عبد المسيح بن بقيلة، فأقبل يمشي حتى دنا من خالد بن الوليد، فقال: أنعم صباحا أيها الملك، قال: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه، فمن أين أقصي أثرك أيها الشيخ؟ قال: من ظهر أبي، فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: أتعقل لا عقلت، قال: أي والله وأقيد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال خالد: ما رأيت كاليوم قط، إني أسأله عن الشيء وينحو في غيره، قال: ما أنبائك إلا عما سألت فسل عما بدا لك.

<<  <   >  >>