للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا موضع الشاهد من الخبر، إن خالد بن الوليد قال له: أرب أنتم أم نبيط؟ قال: عرب استنبطنا، ونبيط استعربنا، قال: فحرب أنتم أم سلم؟ قال: بل سلم، قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها لسفيه نحذر منه، حتى يجيء الحليم ينهاه، قال: كم أتى لك؟ قال: خمسون وثلثمائة سنة، قال: فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرآة من أهل الحيرى تضع مكلتها على رأسها، ولا تزود إلا رغيفا واحدا حتى تأتي الشام، ثم قال أصبحت اليوم خرابا، وذلك دأب الله في العباد والبلاد. قال: ومعه سم ساعة يقلبه في كفه، قال له خالد: ما هذا في كفك؟ قال: هذا السم، قال: وما تصنع به؟ قال: إن كان عندك ما يوافق قومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته، وإن كانت الأخرى، لم أكن أول من ساق إليهم ذلا، أشربه وأستريح من الحياة، فإن ما بقي من عمري إلا اليسير، قال خالد: هاته، فأخذه وقال: بسم الله وبالله رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء، ثم أكله، فتجللته غشية، ثم ضرب بذقنه في صدره طويلا، ثم عرق وأفاق كأنما نشط من عقال. فرجع ابن بقيلة إلى قومه فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره، صانعوا القوم، وأخرجوهم عنكم، فإن هذا أمر مصنوع لهم. فصالحوهم على مائة ألف درهم. انتهى.

ونحو ذلك ما حكي أن رجلا قال لهشام القرطبي: كم تعد؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأكثر، لم أرد هذا، كم تعد من السن؟ قال: اثنين وثلاثين، ستة عشر من أعلى، وستة عشر من أسفل، قال: لم أرد هذا كم لك من السنين؟ قال: عظم، قال: أبن لي ابن كم أنت؟ قال: قال: ابن اثنين رجل وامرأة، قال: كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء قتلني، قال: فكيف أقول؟ قال: تقول: كم مضى من عمرك.

ومن هذا النمط، ما حكي: أن المتوكل كان مشرفا من قصره الجعفري فتعرض له أبو العبر؛ وقميصه سراويل، فقال المتوكل: علي بهذا المثلة، فلما مثل بين يديه، قال له أنت شارب؟ قال: لا، بل عنفقة يا أمير المؤمنين، قال: إني واضع في رجلك الأدهم، ونافيك إلى فارس، قال: اجعل في رجلي الأشهب، وانفني إلى راجل؛ قال: أتراني قي قتلك مأثوم؟ قال: لا، بل ماء بصل يا أمير المؤمنين، فضحك منه ووصله.

ولأبي العبر هذا ترجمة في الأغاني، واسمه محمد، من ولد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس، كان شاعرا متوسطا، يميل إلى الهزل والحماقة، وكان يتباله ويتحامق عمدا، فنفق على الناس، وحصل مالاً عظيماً.

ومن شعره في الجد:

لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير متهم.

وإذا ما الدهر ضعضعني ... لم يجدني كافر النعم.

قنعت نفسي بما رزقت ... وتناهت في العلى هممي.

ليس لي مال سوى كرمي ... فيه لي أمن من العدم.

قال أبو العيناء: أنشدت أبا العبر قول المأمون:

ما الحب إلا قبلة ... وغمز كف وعضد.

أو كتب فيها رقى ... أنفذ من نفث العقد.

ما الحب إلا هكذا ... إن نكح الحب فسد.

فقال لي كذب المأمون، وأكل من الخرا رطلين بالميزان، ألا قال كما قلت:

وباض الحب في قلبي ... فيا ويلي إذا فرخ.

وما ينفعني حبي ... إذا لم أكنس البربخ.

وإن لم يطرح الأصل ... ع خرجيه على المطبخ.

ثم قال لي: كيف رأيت؟ قلت عجبا من العجب، فقال: ظننت أنك تقول: غير هذا؛ فأبل يدي ثم ارفعها. ثم سكت؛ فبادرت وانصرفت.

وكان يجلس في بيته وتجتمع عنده المجان؛ فيملي عليهم أشعاره ويحدثهم؛ فمن ضحك أمر أن يحبس في الكنيف؛ ولا يخرج حتى يغرم درهمين، ونوادره كثيرة.

رجع- ومن شواهد هذا النوع في النظم قول ابن نباتة:

وملولة في الحب لما أن رأت ... أثر السقام بعظمي المنهاض.

قالت تغيرنا فقلت لها نعم ... أنا بالسقام وأنت بالأعراض.

ولعله من قول الوراق:

قال صديقي ولم يعدني ... وعامل السقم في أثر.

لقد تغيرت يا صديقي ... ويعلم الله من تغير.

وبديع قول أبي المحاسن الشواء في هذا النوع:

ولما أتاني العاذلون ... عدمتهم

وما فيهم إلا للحمي قارض.

قد بهتوا لما رأوني شاحبا ... قالوا به عين فقلت وعارض.

ومنه أخذ ابن النقيب قوله:

وما بي سوى عين نظرت لحسنه ... وذاك لجهلي بالعيون وغرتي.

<<  <   >  >>