قال أبو الفتح: هذا ظاهره أن من رآك أفاد منك كسب المعالي. وباطنه أن من رآك على ما بك من النقص وقد صرت إلى الملك ضاق صدره أن يقصر عما بلغته وأن لا يتجاوز ذلك إلى كسب المكارم، وكذلك إذا رآك راجل لا يستكثر لنفسه أن يرجع واليا على العراقيين.
ومثل هذا البيت قوله أيضاً فيه:
يضيق على من راءه العذر أن يرى ... ضعيف المساعي أو قليل التكرم
فإن ظاهره أن من رآه لم يكن له عذر أن يكون ضعيف المسعاة قليل التكرم, يعني منه يتعلم هذه الأشياء، فمن رآه ولم يتعلم منه فهو غير معذور. وباطنه أن مثله في خسته ولؤم أصله إذا كانت مسعاة وتكرم فلا عذر لأحد بعده في تركه.
كما قال الآخر:
لا تيأسن من الإمارة بعدما ... خفق اللواء على عمامة جرولِ
هذا كلام ابن جني والحق ما قاله ابن أبي الحديد: أن المتنبي لم يكن يقصد شيئاً من ذلك قط ولا خطر له أصلا، كيف ولو كان كذلك لناقض كلامه بعضه بعضا، لأن له في كافور من المدح ما لا يشوبه شيء من هذه التأويلات الباردة، والله أعلم بحقائق الأمور.
ومن لطيف الإبهام في النثر، قول القاضي تاج الدين المالكي، غمام المالكية بالمسجد الحرام، في تقريظ له على تصدير وتعجيز للشيخ تقي الدين السنجاري لقصيدة أبي الطيب المتنبي التي مطلعها (أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل) . ولم يكن الشيخ تقي الدين المذكور ممن له قدم في الأدب ولا قدم في الحسب، وهو: وقفت على هذا التصدير والتعجيز فإذا منشئه قد أجاد في النظم والإنشاء، وما كل من أخذ القلم ومشى، ووقف بعجيب تصرفه بين معوج المعاني وطابق.
وكأنه قصد الرد على الطغرائي في قوله: وهل يطابق معوج بمعتدل. ومنه: فقصد أن يسبك درر الأسلاك، ويتصرف فيها تصرف الملاك، أو المنجم الماهر في دراري الأفلاك، فانتبذت خشية منه مكانا قصيا وقالت لعلمها بقدرته على تصرفه كيف شاء "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا". انتهى.
انظر ما أحسن هذا الإبهام الذي تعقد عليه الخناصر.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
ليت المنية حالت دون نصحك لي ... فيستريح كلانا من أذى التهم.
هذا البيت كما قال ابن حجة ليس له نظير في أبيات البديعيات، فإنه اشتمل على الرقة والسهولة والانسجام، وما زاده حسنا إلا تقويته ب (ليت) التي استعان بها الشاعر في إبهام بيته على زيد الخياط.
فإن الشيخ صفي الدين لما قال لعاذلته (ليت المنية حالت دون نصحك لي) حسن إبهامه بقوله (فيستريح كلانا من أذى التهم) ، فصار الأمر مبهما بينه وبين العاذل.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
أبهمت نصحي مشيرا بالأصابع لي ... ليت الوجود رمى الإبهام بالعدم.
قال ابن حجة وهذا الإبهام هنا يشار إليه بالأصابع، فإنه أجاد فيه إلى الغاية ولم يتفق له في نظم بديعيته بيت نظيره، فإنه جمع بين الانسجام والتصدير والتورية البارزة في أحسن القوالب بتسمية النوع ونوع الإبهام الذي هو المقصود. ولعمري انه بالغ في عطف القلوب بهذا السحر الحلال. انتهى.
وأنا أقول: الذي أراه أن هذا البيت ليس من الإبهام الاصطلاحي في شيء، بل هو من الاستخدام على طريقة ابن مالك. لأن الإبهام كما تقدم، أن يقول المتكلم كلاما محتملا لمعنيين متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر، ولذلك سماه بعضهم محتمل الضدين، ولا تضاد هنا بين إرادة الإبهام الذي هو مصدر أبهم الأمر، وبين الإبهام الذي هو أكبر الأصابع.
قال العلامة التفتازاني في مختصر المطول عند قول الماثن في تعريف هذا النوع: هو إيراد الكلام محتملا لمعنيين مختلفين أي متباينين متضادين ولا يكفي مجرد احتمال معنيين مختلفين. انتهى.
وهذا يدل صريحاً على أن هذا البيت ليس من الإبهام بشيء، وإنما قلنا إنه من الاستخدام على طريقة ابن مالك، لأنه داخل في حده، وذلك أن الاستخدام على طريقته كما مر أن يؤتى بلفظ مشترك بين معنيين ثم بلفظين يخدم كل واحد منهما معنى من دينك المعنيين، وهذا البيت كذلك فإن لفظ الإبهام يطلق على المعنيين المذكورين، ولفظ أبهمت يخدم الإبهام بمعنى المصدر، ولفظ الأصابع يخدم الإبهام الذي هو أكبر الأصابع.
وهذا الكلام بعينه يجري في بديعية ابن حجة:
وزاد إبهام عذلي عاذلي ودجا ... ليلي فهل من بهيم يشتفي ألمي.