حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بشدة اليأس منه رقة الغزلِ
فإنه قابل الحلو والفكاهة، وهي المزح، بالمر والجد على الترتيب في صدر البيت، وقابل الشدة واليأس بالرقة والغزل على الترتيب في عجز البيت فظهر أن كلام الشيخ صفي الدين مبني على الغالب دون التحقيق والله أعلم.
مثال مقابلة اثنين باثنين - قوله تعالى: (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً) .
وقول النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا الخرق في شيء إلا شأنه.
وقول الذبياني:
فتىَ تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء إلا عاديا
وقوله الآخر:
فوا عجبا كيف اتفقنا فناصح ... وفيَّ ومطوي على الغل غادرُ
فإن الغل ضد النصح، والغدر ضد الوفاء ومن لطيف ذلك، ما حكي عن محمد بن عمران الطلحي، إذ قال له المنصور: بلغني أنك بخيل، فقال: يا أمير المؤمنين ما أجمد في حقٍ ولا أذوب في باطل.
ومثال مقابلة ثلاثة بثلاثة قول أبي الطيب المتنبي:
فلا الجود يفني المال والجد مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجد مدبرُ
وقول الآخر في المعنى:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها ... على الخلق طرا إنها تنقلبُ
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ... ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب
وقول أبي تمام:
يا أمة كان قبح الجور يسخطها ... دهراً فأصبح حسن العدل يرضيها
وقول شهاب الدين محمود:
يا راكباً يفري جواد الفلا ... على أمون جسرة أو جوادْ
يسري فتبيديه ظهور الربى=طوراً فتخفيه بطون الوهاد وقول الآخر وفي كل من البيتين مقابلة ثلاثة بثلاثة:
يفر جبان القوم عن ابن أمه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبهْ
ويرزق معروف الكريم عدوه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه
ومنه قول الشيخ صفي الدين الحلي في راقص:
ورَّنح الرقص منه عطفاً ... حف به اللطف والدخولُ
فعطفه داخل خفيف ... وردفه خارج ثقيل
فقابل العطف بالردف، والداخل بالخارج، والخفيف بالثقيل. وليس هذا من مقابلة اثنين باثنين كما زعم ابن حجة.
ومثال مقابلة أربعة بأربعة قوله تعالى: فأما من أعطى واتقى - الآيتين - وقد تقدم ذكرهما وبيان المقابلة فيهما.
وقول غرس الدين الأربلي:
تسر لئيماً مكرمات تعزه ... وتبكي كريما حادثات تهينُهُ
ومثال مقابلة خمسة بخمسة قول أبي الطيب المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وانثني وبياض الصبح يغري بي
قالوا: قابل خمسة بخمسة، والمقابلة الخامسة بين (لي) و (بي) ، قال الخطيب القزويني: وفيه نظر، لأن الباء واللام فيهما صلتا الفعل فهما من تمامهما، قال: وضد الليل المحض هو النهار، لا الصبح.
وقد أخذ بعضهم قول أبي الطيب أخذاً مليحاً فقال:
أقلي النهار إذا أضاء صباحه ... وأظلّ انتظر الظلام الدامسا
فالصبح يشمت بي فيقبل ضاحكاً ... والليل يرثي لي فيدبر عابسا
قال الصفدي: وهو مقابلة خمسة بخمسة. انتهى.
قلت: والنظر المذكور وارد عليه مع الأغراض.
وعدوا من مقابلة خمسة بخمسة قول الثعالبي:
عذيري من الأيام مدت صروفها ... إلى وجه من أهوى يد النسخ والمحوِ
وأبدت بوجهي طالعات أرى بها ... سهام أبي يحيى يسددها نحوي
فذاك سواد الخط ينهى عن الهوى ... وهذا بياض الحظ أمر بالصحوِ
ومن يرى المقابلة بين صلتي الفعل فهو عنده من مقابلة ستة بستة.
ومثال مقابلة ستة بستة، ما أنشده الصاحب شرف الدين مستوفي أربل لغيره، وهو:
على رأس عبدٍ تاج عز يزينه ... وفي رجل حر قيد ذل يشينهُ
قال الصلاح الصفدي: هذا أبلغ ما يمكن أن ينظم في هذا المعنى. فإن أكثر ما عد الناس في باب المقابلة بيت أبي الطيب لأنه قابل فيه بين خمسة، وهذا قابل فيه بين ستة والله أعلم.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين قوله:
كان الرضا بدنوي من خواطرهم ... فصار سخطي لبعدي عن جوارهمِ
قال في الشرح: فيه مقابلة، كان بصار، والرضا بالسخط، والدنو بالبعد، ولفظةِ من بعن، لأنها تخالفها أيضاً، وخواطرهم بجوارهم، فهذه عشرة متقابلة من غير حشو.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله: