للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال الشيخ صفي الدين في شرح بديعيته: وهذا - يعني الاستخدام - نوع عزيز الوقوع معتاص على الناظم شديد الالتباس بالتورية، قلما تكلفه بليغ وصح معه بشروطه لصعوبته وقلة انقياده وميله إلى جانب التورية، ولذلك لم يرد منه في أمثلة كتب المؤلفين سوى بيتين، وفي كل منهما نظر.

أحدهما قول البحتري:

فسقى الغضا والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانح وقلوبِ

والنظر في اشتراك لفظة الغضا، فإن علماء البديع اشترطوا أن يكون اشتراك لفظة الاستخدام اشتراكاً أصلياً، والاشتراك في لفظة ألغضا ليس بأصلي، ولكن أحد المعنيين منقول من الآخر، لأن الغضا في الحقيقة هو الشجر، وسمي وادي الغضا لكثرة نبته فيه، وسمي جمر الغضا لقوة ناره فكلاهما منقول من أصل واحد.

وأما البيت الآخر فقول المعري:

وفقيه ألفاظه شدن للنعما ... ن ما لم يشده شعر زيادِ

وهذا بيت من مرثية له في فقيه حنفي والنعمان اسم أبي حنيفة، وزياد هو النابغة وكان يمدح النعمان بن المنذر، فالمراد بالبيت أن ألفاظ هذا الفقيه شادت لأبي حنيفة من حسن الذكر ما لم يشده شعر زياد للنعمان بن المنذر. والنظر الذي فيه من حيث أن من شروط الضمير في الاستخدام أن يكون عائداً إلى اللفظة المشتركة ليستخدم به معناها الآخر، كما قال البحتري: شبوه والضمير عائد إلى الغضا، وهذا جعل الضمير في يشده عائداً إلى لفظة ما، وهي نكرة موصوفة، فيبقى طيب الذكر الذي لم يشده شعر زياد لا يعلم لمن هو، لأن الضمير لا يعود إلى النعمان، ويمكن الاعتذار له على تأويل النجاة وهو بعيد. انتهى كلام الصفي.

وأراد بالتأويل أن يقال: إن التقدير، ما لم يشده له، فيعود الضمير على النعمان بهذا التقدير، ووجه بعده عدم وجود هذا الضمير في اللفظ وفي كل من هذين النظرين اللذين أوردهما على البيتين بحث.

أما نظره الأول في بيت البحتري فإنما يتوجه أن لو أراد الناظم بالغضا وادي الغضا فحذف المضاف واكتفى بالمضاف إليه، وليس كذلك، بل لفظتا الغضا وحدهما اسم لمكانين. قال في القاموس: والغضا أرض لبني كلاب وواد بنجد، فيكون الغضا علماً لكل من هذين المكانين، ولو كان الاسم وادي الغضا لقال: وادي الغضا بأرض بني كلاب وواد بنجد، فصح أن الغضا مشترك بين الشجر وبين كونه علماً لكل واحد من هذين المكانين اشتراكاً أصلياً. لا يقال: لعله إنما سمي هذان المكانان بالغضا لكثرة نبت الغضا فيهما مبالغة، لأنا نقول: هذا يحتاج إلى إثبات أن الواضع إنما سمي هذين المكانين بهذا الاسم لهذا السبب ودون ذلك خرط القتاد، ولغة العرب وسيعة، والألفاظ المشتركة فيها كثيرة، فمن أين لنا القطع بذلك واللغة لا تثبت بالعقل؟ وأما النظر الثاني الذي أورده على بيت المعري فإنما يتوجه على كونه من الاستخدام الذي هو طريقة صاحب الإيضاح.

وأما إذا جعلناه على طريقة صاحب المصباح فلا، لأنه لم يشترط عود الضمير على لفظة الاستخدام، فيكون لفظة فقيه في البيت يخدم لفظة النعمان الذي هو أبو حنيفة، وشعر زياد يخدم النعمان الذي هو ممدوحه وهو النعمان بن المنذر. فصح كونه استخداماً على هذه الطريقة دون الأولى فاعلم ذلك والله أعلم.

وقد استخدم كثير من الشعراء لفظة الغضا، فقال ابن أي حصينة:

أما والذي حج الملبون بيته ... فمن ساجد الله فيه وراكعِ

لقد جرعتني كأس بين مريرة ... من البعد سلمى بين تلك الأرجاع

وحلت بأكناف الغضا فكأنما ... حشت ناره بين الحشا والأضالع

وعدواً منه قول ابن قلاقس:

حلت مطاياهم بملتف الغضا ... فكأنما شبوه في الأكبادِ

وقول البدر بن لؤلؤ الذهبي:

أحمامة الوادي بشرقي الغضا ... إن كنت مسعدة الكئيب فرجعي

فلقد تقاسمنا الغضا فغصونه ... في راحتيك وجمره في أضلعي

وعند أن النظر الذي أورده الصفي على بيت البحتري يرد على هذين الاستخدامين.

ومن استخدام البديع قول ابن الوردي:

ورب غزالة طلعت ... بقلبي وهو مرعاها

نصبت لها شباكاً من ... نضار ثم صدناها

وقالت لي وقد صرنا ... إلى عين قصدناها

بذلت العين فأكحلها ... بطلعتها ومجراها

<<  <   >  >>