ففي البيت الأول استخدام، وفي البيت الرابع أربعة استخدامات، ومعناها بذلت الذهب فأكحل عينك بطلعة عين الشمس، ومجرى العين من الماء، لأنه وطأ لهذه المعاني في الأبيات المتقدمة، وأتى بالبيت الرابع فتنزل جملة على ما تفصل.
قال الصفدي: وهذا أبلغ ما سمعته في الاستخدام. وما عرفت لغيره هذه العدة في هذا الوزن القصير، وهذا يدل على الفكر الصحيح والتخيل التام.
قلت: وقد جمع ابن مليك الحموي أيضاً أربع استخدامات في العين.
فقال في بيت واحد من مديح نبوي:
فكم رد من عين وجاد بنيلها ... ولولاه ما ضاءت ولم تك تعذبُ
وقال أيضاً في مثل ذلك:
كم رد من عين وجاد بها وكم ... ضاءت به وشفى بها من صادِ
وبديع قول الصفي الحلي:
إذا لم أبرقع بالحيا وجه عفتي ... فلا أشبهته راحتي في التكرم
ولا كنت ممن يكسر الجفن في الوغى ... إذا أنا لم أغضضه عن غير محرم
وقول بعض المتأخرين:
وللغزالة شيء من تلفته ... ونورها من ضيا خديه مكتسب
وقول ابن نباتة المصري:
إذا لم تفض عيني العقيق فلا رأت ... منازله بالقرب تبهى وتبهرُ
وإن لم تواصل غادة السفح مقلتي ... فلا عادها عيش بمغناه أخضر.
وأخذ هذين الاستخدامين الشيخ عبد الرحيم العباسي صاحب معاهد التنصيص على شواهد التلخيص أخذاً مجحفاً وأضافهما إلى استخدام البحتري فقال:
تمر الصبا عفواً على ساكني الغضا ... وفي أضلعي نيرانه تتسعر
فتذكرني عهد العقيق وأدمعي ... تساقطه والشيء بالشيء يذكر
وتورث عيني السفح حتى ترى به ... معالم للأحباب تزها وتزهر
وله أيضاً:
وإني للثغر المخوف لكاليء ... نعم وله من كل غيداء راشفُ
وهذا أيضاً مأخوذ من قول عبد الله بن طاهر ذي اليمينين: وإني للثغر المخوف لكاليء=وللثغر يجري ظلمه لرشوفُ وهذه الأمثلة كلها جارية على طريقة صاحب الإيضاح في الاستخدام.
وأما الأمثلة على طريقة بدر الدين بن مالك، فمنها قول أبي العلاء يصف درعا:
نثرة من ضمانها للقنا الخط ... ي عند اللقاء نثر الكعوبِ
مثل وشي الوليد لانت وإن كا ... نت من الصنع مثل وشي حبيب
تلك ماذية وما لذباب الص ... يف والسيف عندها من نصيب
فالذباب مشترك بين طرف السيف وبين الطائر المعروف، فلفظ السيف يخدم المعنى الأول، لفظ الصيف يخدم المعنى الثاني.
وقول السراج الوراق:
دع الهوينا وانتصب واكتسب ... واكدح فنفس المرء كداحه
وكن عن الراحة في معزل=فالصفع موجود مع الراحه فالراحة تطلق على الاستراحة وعلى الكف، وقد تقدمها من القرائن ما يخدم المعنيين، فالانتصاب والكدح يخدم المعنى الأول، والصفح يخدم المعنى الثاني، ولا يخفى أن الطريقة الأولى أحسن موقعاً وألطف مورداً من هذه الطريقة، وقد تقدم أن أصحاب البديعيات إنما جروا على تلك الطريقة دون هذه.
فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
من كل أبلج واري يوم قرى ... مشمر عنه يوم الحرب مصطلمِ
أراد بالزند: الزناد، بقرينه الواري يوم القرى، وبالضمير الراجع من (عنه) العضو الذي تحت العضد، بقرينة مشمر عنه يوم الحرب.
وبيت ابن جابر الأندلسي قوله:
إن الغضا لست أنسى أهله فهم ... شبوه بين ضلوعي يوم بينهمِ
قال ابن حجة: لو عاش البحتري ما صبر لابن جابر على هذه السرقة، فإنه أخذ لفظة ومعناه وضميره، وما اختشى من الجرح ولا سلم من النقد.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
والعين قرت بهم لما بها سمحوا ... واستخدموا من الأعدا فلم تنمِ
قال ابن حجة: قوله: والعين قرت بهم لما بها سمحوا، في غاية الحسن فإنه أتى بالاستخدام وعود الضمير في شطر البيت مع الانسجام والرقة، واستخدم العين الناظرة، وعين المال. وأما قوله في الشطر الثاني: واستخدموها من الأعدا فلم تنم، ما أعلم ما المراد به، فإن الاستخدام في العين التي هي الجارحة قد تقدم، والذي يظهر لي أن اضطراره إلى تسمية النوع الجأه إلى ذلك. انتهى.