للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وعليه قول القائل:

رب سواد وهي بيضاء معنى ... يحسد المسك عندها الكافور

مثل حب العيون تحسبه النا ... س سوادا وإنما ونور

الثامن: إظهار التشويه للتنفير عنه, كما في تشبيه وجه مجدور بسلحة جامدة قد نقرتها الديكة, وهذا الوجه والذي قبله يقتضيان كون الاستحسان والاستقباح, في المشبه به أتم. قال بعضهم: والتشبيه في طرفي الترغيب والتنفير أبلغ من سائر الصفات.

كقول البحتري في الورد:

أما ترى الورد يحكي خجله ظهرت ... في صحن خد من المعشوق منعوت

كأنه فوق ساق من زبرجدة ... نثر من التبر في محمر ياقوت

حيث شبهه بصورة خد المعشوق, ومثله بالتبر والياقوت والزبرجد وبضده فعل ابن الرومي لا شكر سعيه فيه حيث قال:

وقائل لم هجوت الورد مقتبلا ... فقلت من شؤمه عندي ومن سخطه

كأنه سرم بغل حين أخرجه ... عند البراز وباقي الروث في وسطه

التاسع: قصد استطرافه, وذلك أن يكون المشبه به أمرا غريبا نادر الحضور في الذهن مطلقا, فيكتسي المشبه غرابة منه, فيستطرف كما في تشبيه فحم فيه جمر متوقد, ببحر من المسك موجه الذهب لإبرازه في صورة الممتنع عادة.

وقط نظمت ذلك فقلت:

انظر إلى الفحم فيه الجمر متقد ... كأنه بحر مسك موجه الذهب

أو يكون نادر الحضور عند ذكر المشبه, كما في قول ابن المعتز في البنفسج:

ولازوردية تزهو برزقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت

كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت

فان صورة اتصال النار بأطراف الكبريت لا يندر حضورها في الذهن ندرة حضور بحر من المسك موجه الذهب, وإنما النادر حضورها عند حضور البنفسج, فإذا حضر مع صحة الشبه استطرف لمشاهدة عناق بين صورتين لا تتراءى ناراهما.

ووجه آخر: وهو أنه أثبت التماثل بين أوراق رطبة غضة ناضرة يجري فيها ماء الحسن, وجسم ذابل يابس استولى عليه لهب النار, مع أنهما لا يتعانقان في خيال أبدا, ولذلك بلغ من الاستطراف حدا يتنافس فيه.

يحكى أن جريرا قال لما أنشد عدي بن الرقاع قوله:

عرف الديار توهما فاعتادها ... من بعد ما لبس أبلادها

إلى قوله: (تزجي أغن كان إبرة روقه) رحمته, وقلت: قد وقع, ما عساه أن يقول وهو أعرابي جلف جاف.

فلما قال: (قلم أصاب من الدواة مدادها) استحالت الرحمة حسدا وما كنت رحمته أولاً, وحسده ثانياً, إلا لأنه رآه حين افتتح التشبيه بذكر ما لا يحضر له في بدء الفكر شبه, وهو أعرابي جلف ليس ممن يتعمق في الفكر, ويمعن النظر, حتى يفوز بما هو مناسب, رحمه, وحين رآه ظفر بأقرب صفة لا يجتمع معه في أبدى ذهن حسده.

ومن النادر الحضور, لتباعد الطرفين وندرة اجتماع أحدهما مع الآخر ما يحكى أن أبا تمام لما انتهى في قصيدته البائية إلى قوله:

يرى أقبح الأشياء خيبة آمل ... كسته يد المأمول حلة خائب

وأحسن من نور تفتحه الصبا ... .............................

وقف يردده ويطلب مشبها به, فإذا سائل بالباب يقول: من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا, فقال (بياض العطايا في سواد المطالب) .

والثاني, وهو كون الغرض عائدا إلى مشبه به على نوعين.

أحدهما: إيهام أن المشبه به أتم في وجه التشبيه للمبالغة, لان المشابه حقه أن يكون أعرف بوجه التشبيه وأقوى, فإذا عكس كان مبالغة.

كقول محمد بن وهيب:

وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح

فانه قصد إيهام أن وجه الخليفة أتم من الصباح في الوضوح والإنارة, وفي قوله: حين يمتدح, دلالة على إنصاف الممدوح بمعرفة حق المادح, وتعظيم شأنه عند الحاضرين بالإصغاء إليه والارتياح له, وعلى كونه كاملا في الكرم, يتصف بالبشر والطلاقة عند استماع المديح.

ويسمى هذا النوع: التشبيه المقلوب, وقد يسمى بالطرد والعكس, لأن عود الفائدة إلى ما هو مشبه حقيقة مطرد وإن عكس التشبيه. وتقرير ذلك أن الغرض العائد إلى المشبه لا يتفاوت إذا كان منعكسا إلا في بيان المبالغة, لأنك إذا قلت: الأسد كزيد, كان الغرض يعود إلى وصف زيد, لكن أبلغ من الأول, ففي كلا الحالتين الغرض عائد إلى المشبه, ومطرد في حقه.

<<  <   >  >>