للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهو ما يقصده المتكلم من إيراد التشبيه, وهو يعود في الأغلب إلى التشبيه, وقد يعود إلى المشبه به. فالأول على وجوه: أحدها, بيان حاله, كما في تشبيه ثوب بثوب آخر في السواد, إذا علم لون المشبه به دون المشبه. وهذا الوجه يقتضي كون المشبه أعرف بوجه الشبه.

الثاني: بيان مقدار حاله في القوة والضعف, والزيادة والنقصان.

كما إذا شبهت أسود بخافية الغراب, قال:

مداد مثل خافية الغراب ... وأقلام كمرهفة الحراب

وعليه قول الآخر:

فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع

أي بلغت في بوار سعيي في الوصول إليها, وأن أمنع عنها, أقصى الغايات, حتى لم أحظ بما قل ولا كثر, وهذا الوجه يقتضي كون المشبه به أخص من المشبه بوجه الشبه, مساويا له في المقدار حقيقة أو ادعاء.

الثالث: بيان وجوده, كما إذا شبه معقول في الذهن بأحد أفراده في الخارج, دلالة على وجوده, نحو الكلمة, كزيد, ويسمى مثلا.

الرابع: بيان إمكان وجوده, وذلك عند ادعاء ما لا يكون إمكانه بينا, فيمكن أن يخالف فيه ويدعى امتناعه, فيؤتى بالتشبيه لبيان إمكانه.

كقول ابن الرومي:

كم من أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان

وقول أبي الطيب:

فإن نفق الأنام وأنت منهم ... فان المسك بعض دم الغزال

فانه أراد أن يقول: إن الممدوح قد فاق الناس, بحيث لم يبق بينهم وبينه مشابهة, بل صار أصلا برأسه, وجنسا بنفسه. وهذا في الظاهر كالممتنع, لاستبعاد أن يتناهى بعض آحاد النوع في الفضائل الخاصة بذلك النوع, إلى أن يصير كأنه ليس منها, فاحتج لهذه الدعوى وبين إمكانها, بان شبه حاله بحال المسك الذي هو من الدماء, ثم أنه لا يعد من الدماء, لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا توجد في الدم.

فان قلت: أين التشبيه في هذا البيت؟.

قلت: يدل البيت عليه ضمنا, لأن المعنى: إن نفق الأنام مع أنك واحد منهم, فلا استبعاد في ذلك, لأن المسك بعض دم الغزال وقد فاته حتى لا يعد منه, فحالك شبيه بحال المسك. وليسم مثل هذا تشبيها ضمنيا, أو تشبيها مكنيا عنه. قاله التفتازاني في شرح التلخيص. وهذا الوجه كالذي قبله يقتضي كون المشبه به مسلم الحكم, فيكون أعرف به لا محالة.

الخامس: تقدير حاله عند السامع, وتقوية شأنه, كما إذا شبهت من لا يحصل من سعيه على طائل, بمن يرقم على الماء, فانك تجد فيه من تقرير عدم الفائدة, وتقوية شأنه ما لا تجد في غيره, وما ذلك إلا لان إلف النفس بالحسيات أتم من إلفها بالعقليات, لتقدم الحسيات على العقليات بالزمان.

ألا ترى انك إذا أردت الإشارة إلى تنافي شيئين فأشرت إلى ماء ونار, وقلت: هذا وذاك هل يجتمعان؟ كان تأثير ذلك زائدا على قولك: هل يجتمع الماء والنار؟ وكذلك لو قلت في وصف طول يوم: يوم كأطول ما يتوهم, أو كأنه لا آخر له.

أو أنشدت قول الشاعر:

في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالليل موصول

لم يجد فيه السامع من الأنس ما يجده في قول الآخر:

ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطكاك المزاهر

وما ذاك إلا للتشبيه المحسوس, وإلا فالأول أبلغ, لأن طول الرمح متناه, وفي الأول حكمت بان الليل موصول. وكذلك إذا قلت في قصر اليوم: يوم أقصر ما يكون, وكأنه ساعة أو لمحة بصر.

لم تجد فيه ما تجده في قول القائل:

ظللنا عند دار أبي أنيس ... بيوم مثل سالفه الذباب

وقوله:

ويوم كإبهام القطاة مزين ... إلي صباه غالب لي باطله

وهذا الوجه يقتضي كون وجه الشبه في المشبه به أتم, وهو به أشهر.

السادس: تقرير تحقيقه كيلا يستبعد وقوعه كقوله تعالى "وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة" قرر ما لم تجربه العادة من نتق الجبل فوق رؤوسهم, بالتشبيه بما جرت به العادة من الظلة المحسوسة, وهي كل ما أظلك, وهذا الوجه يقتضي كون وجه الشبه في المشبه به أشهر.

والفرق بينه وبين قول المتنبي (وإن تفق الأنام) البيت, إن ذاك مستبعد عقلا, وهذا لا يستبعده العقل أصلا, لجزمه بان مثله سهل على الله جلت قدرته, لكنه خارق للعادة, وللنفس بالعادة إلف عظيم, فشبه بما هو معتاد.

السابع: إظهار التزيين للترغيب فيه, كما في تشبيه وجه أسود بمقلة الظبي.

<<  <   >  >>