للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كحلاء في برج صفراء في دعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب

لأن الأول مما يندر وجوده, دون الثاني فإن الناس أبدا يرون في الصياغات فضة قد موهت بذهب, ولا يكاد يتفق أن يوجد درر قد نثرن على بساط أرزق.

وإما لكونه كثير التفصيل, كتشبيه المرآة بالشمس في كف الأشل, فإن وجه التشبيه فيه هو الهيئة الحاصلة من الاستدارة, مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة, مع تموج الإشراق واضطرابه, حتى يرى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة, ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض وهذه الهيئة لا تقع في نفس الرائي للمرآة الدائمة الانقباض إلا بعد أن يستأنف تأملا, ويكون في نظره متمهلا, فالغرابة في هذا التشبيه من وجهين: أحدهما: قلة تكرار المشبه به على الحس.

والثاني: كثرة التفصيل في وجه الشبه.

والمراد بالتفصيل أني يعتبر في الأوصاف وجودها أو عدمها, أو وجود بعضها وعدم بعضها, كل من ذلك من أمر واحد, أو أمرين أو ثلاثة أو أكثر.

ويقع على وجوه كثيرة أعرفها وأبلغها وجهان: أحدهما: أن تأخذ بعضا من الأوصاف وتدع بعضا.

كما في قول امرئ القيس:

حملت ردينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان

ففصل السنا عن الدخان وأثبته مجردا.

والثاني: أن يعتبر الجميع.

كما في قول الآخر:

وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا

فانه اعتبر من الأنجم الشكل والمقدار, واجتماعها على المسافة المخصوصة في القرب, ثم اعتبر مثل ذلك في العنقود المنورة من الملاحية -وهي بضم الميم- وهي عنب أبيض في حبه طول.

وكلما كان التركيب من أمور أكثر كان التشبيه أبعد وأبلغ, كقوله تعالى "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس" فإنها عشر جمل فصلت. وهي وإن دخل بعضها في بعض حتى صارت كلها كأنها جملة واحدة, فإن ذلك لا يمنع من أن تشير أليها واحدة واحدة, ثم إن التشبيه منتزع من مجموعها من غير أن يكون فصل بعضها عن بعض, حتى لو أخذت منها جملة أخل ذلك بالمغزى من التشبيه.

ومن أبلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه قول ابن المعتز:

كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جون

شبه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصبح بأشخاص الغربان, ثم شرط أن يكون قوادم ريشها أيضاً, لأن تلك الفرق من الظلمة تقع حواشيها من حيث يلي معظم الصبح وعموده لمع نور يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض. وتمام التدقيق في هذا التشبيه, أن جعل ضوء الصبح لقوة ظهوره ورفعه ظلام الليل, كأنه يحفز الدجى ويتسعجلها, ولا يرضى منها بأن تتمهل في حركتها, ثم لما راعى ذلك في التشبيه ابتداء راعاه آخرا, حيث قال (نطير غرابا) ولم يقلك غراب يطير نحوه, لأن الطائر إذا كان واقعا في مكان فازعج وأطير منه, أو كان قد حبس في يد أو قفص فارسل كان لا محالة أسرع لطيرانه, وأدعى له أن يستمر على الطيران حتى يصير إلى حيث لا تراه العيون, بخلاف ما إذا طار عن اختيار, فانه يجوز أن لا يسرع في طيرانه وإن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأول.

وإذا قد تحققت ما ذكرنا في التفصيل علمت أن قول امرئ القيس في وصف السنان أعلى طبقة من قول الآخر:

يتابع لا يبتغي غيره ... بأبيض كالقبس الملتهب

لخلو هذا من التفصيل الذي تضمنه قول امرئ القيس, وهو قصر التشبيه على مجرد السنا, وتصويره مقصورا عن الدخان, ومعلوم أن هذا لا يقع في الخاطر أول وهلة, بل لا بد فيه من أن يثبت وينظر في حال كل من الفرع والأصل حتى يقع في النفس أن في الأصل شيئا يقدح في حقيقة التشبيه, وهو الدخان الذي يعلو رأس الشعلة.

وكذا قول بشار:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه

أعلى طبقة من قول أبي الطيب:

يزور الأعادي في سماء عجاجة ... أسنته في جانبيها الكواكب

وقول الآخر:

تبني سنابكها من فوق أرؤسهم ... سقفا كواكبه البيض المباتير

<<  <   >  >>