للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فاستحسن الرشيد مواربته، وقال بعض الحاضرين: لله دره من شعر قلعت عيناه فأبصر.

ومن شواهدها بغير ذلك: قصة أبي مسلم الخراساني مع سليمان بن كثير وهي: أن أبا مسلم قال لسليمان: بلغني أنك كنت في مجلس، وقد جرى ذكري فقلت: اللهم سود وجهه واقطع رأسه واسقني من دمه، فقال نعم قلت ذلك، ونحن جلوس تحت كرم حصرم؛ فاستحسن أبو مسلم ذلك منه. انتهى.

وغلط ابن حجة في عد هذه الواقعة من نوع الإبهام، بل هي من نوع المواربة قطعا، كما ذكره بعض الفضلاء المتأخرين، لما اشتملت عليه من إفساد سليمان بن كثير ظاهر كلامه بتأويله بما لا يخطر ببال، ولا يتبادر إلى ذهن، من إرجاع ضمائره إلى الحصرم، ولا يعد إبهاما كما قدمنا الكلام عليه في نوع الإبهام.

ومنها ما روي: إن المتوكل رمى عصفورا فأخطأه فقال ابن حمدون النديم: أحسنت والله يا سيدي، فاستشاط المتوكل غيظا وقال: ويلك أتهزأ بي؟ أحسنت؟ فقال: إلى العصفور يا أمير المؤمنين، فسكن غيظه وضحك، فافسد ظاهر كلامه بجعله أحسنت بمعنى أسديت الإحسان إلى العصفور بعدم أصابتك له.

ومنها ما حكي: أن المعذل (وكان شيعيا) مر بقوم من النواصب فسلم عليهم، فلم يجيبوه فقال: لعلكم تظنون في ما يقال من الرفض؟ اعلموا أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا عليه السلام، من تنقص واحدا منهم فهو كافر وامرأته طالق، فسر القوم بذلك، ودعوا له، فقال له أصحابه: ويحك ما هذه اليمين؟ فقال: إني أردت بقولي واحدا منهم عليا وحده لا غير.

ومثل ذلك ما روي أن بعض النواصب قال لرجل من الشمعة: ما تقول في العشرة من الصحابة؟ قال: أقول فيهم الخير الجميل الذي يحبط الله به سيأتي، ويرفع درجاتي، قال السائل: الحمد لله على ما أنقذني من بغضك كنت أظنك رافضيا تبغض الصحابة؛ فقال الرجل: من أبغض واحدا من الصحابة فعليه لعنة الله، قال: لعلك تتأول، ما تقول فيمن أبغض العشرة من الصحابة؟ فقال: من أبغض العشرة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فوثب فقبل رأسه وقال: اجعلني في حل مما قذفتك به من الرفض قبل اليوم، قال أنت في حل وأنت أخي، ثم انصرف السائل. وأراد بقوله: من أبغض واحدا من الصحابة: عليا عليه السلام، بقوله من أبغض العشرة جميعا، فيكون علي عليه السلام داخلا فيهم.

وقريب من هذا ما روي عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: أن حزقيل مؤمن آل فرعون كان يدعو قوم فرعون إلى الإيمان، فوشي به واشون إلى فرعون، وقالوا: أن حزقيل يدعو إلى مخالفتك، ويعين أعداءك على مضادتك، فقال لهم فرعون: ابن عمي وخليفتي على ملكي وولي عهدي، إن فعل ما قلتم فقد استحق العذاب على كفره نعمتي، وان كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم أشد العقاب لا يثاركم الدخول في مسائته. فجيء بحزقيل وجيء بهم وكاشفوه وقالوا: أنت تجحد ربوبية فرعون الملك وتكفر نعماه، فقال حزقيل: أيها الملك هل جربت علي كذبا قط؟ قال: لا، قال: فسلهم من ربهم؟ قالوا فرعون، قال: ومن خالقكم؟ قالوا: فرعون هذا، قال: ومن رازقكم الكافل لمعائشكم، والدافع عنكم مكارهكم؟ قالوا: فرعون هذا، قال حزقيل أيها الملك فأشهدك وكل من حضرك أن ربهم هو ربي، وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، ومصلح معاشهم هو مصلح معاشي؛ لا رب ولا خالق ولا رازق غير ربهم وخالقهم ورازقهم، فاشهد لي ومن حضرك أن كل رب وخالق ورزاق سوى ربهم وخالقهم ورازقهم فأنا بريء منه ومن ربوبيته، وكافر بإلهيته.

يقول حزقيل هذا وهو يعني أن ربهم هو الله ربي، ولم يقل: أن الذي قالوا أنه ربهم هو ربي. وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره، وتوهموا أنه يقول: فرعون ربي وخالقي ورازقي، فقال لهم فرعون: يا رجال السوء ويا طلاب السوء في ملكي، ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمي وهو عضدي أنتم المستحقون لعذابي لإرادتكم فساد أمري، وأهلاك ابن عمي، والفت في عضدي، ثم أمر بالأوتاد؛ فجعل في ساق كل واحد منهم وتدا، وفي صدره وتدا، وأمر أصحاب أمشاط الحديد فمشطوا بها لحومهم من أبدانهم، فذلك ما قال الله تعالى (فوقاه الله سيئات ما مكروا) لما وشوا به إلى فرعون ليهلكوه (وحاق بآل فرعون سوء العذاب) وهم الذين وشوا بحزقيل إليه لما أوتد فيهم الأوتاد، ومشط عن أبدانهم لحومهم بالأمشاط.

<<  <   >  >>