وحقيقة المواربة: أن يقول المتكلم قولا يتضمن ما ينكر عليه فيه بسببه وتتوجه عليه المواخذة فيستحضر بحذقة وجها من الوجوه التي يمكن التخلص به من تلك المؤاخذة، أما بتحريف كلمة أو تصحيفها، أو بزيادة أو نقص، أو غير ذلك من الوجوه. انتهى.
وظاهر أنه لا يتعين نقلها إلى الاصطلاح من الورب بمعنى الفساد بل يجوز أن يكون من المداهات والمخاتلة كما في القاموس، بل هو أنسب بالمعنى الاصطلاحي كما لا يخفى.
قال ابن أبي الإصبع: ومنه قوله تعالى حكاية عن أكبر أولاد يعقوب (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق) ولم يسرق، فأتى بالكلام على الصحة بإبدال ضمة من فتحة وتشديد في الراء وكسرتها، انتهى، وهو من المواربة بالتحريف.
وأحسن شاهد وقع في هذا النوع في الشعر وهو من التخلص بالتحريف أيضاً، ما روي: أن عبد الملك بن مروان أحضر إليه رجل يرى رأي الخوارج وهو عتبان الحروري بكسر العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوقها وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون_فقال له: ألست القائل يا عدو الله.
فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين سبيب
فقال: لم أقل كذا يا أمير المؤمنين، وإنما قلت: ومنا أمير المؤمنين شبيب -ونصب أمير المؤمنين- فاستحسن قوله وأمر بتخليته.
وهذا الجواب في نهاية الحسن، فأنه إذا كان (أمير) مرفوعا كان مبتدأ فيكون: شبيب أمير المؤمنين، وإذا كان منصوبا فقد حذف منه حرف النداء ومعناه: يا أمير المؤمنين من شبيب، فلا يكون أمير المؤمنين بل يكون منهم.
وشاهد التصحيف في المواربة ما حكي: أنه أحضر أبو المقداد الهذلي عند جعفر بن سليمان الهامشي، فقال له جعفر بن سليمان: أنت القائل في؟
يا ابن الزواني من بني معاوية ... أنت لعمري منهم ابن الزانية
ثم قال: وهذا خطك. فقال صدقت هو خطي، ولكن إنما قلت: يا ابن الرواثي أنت ابن الراثية، أي اللواتي ينحن على موتاهن.
ومنه أنه اجتمع جماعة من الصوفية على علوية الشاعر وقالوا له: أنت قلن (طاب لنا الرفض بغير حشمة) ؟ فقال: إنما قلت: طاب لنا الرفض، بالصاد المهملة، فانصرفوا عنه.
ومن لطيفه ما حكي: أن بعض الملوك كان له ولد أسمه يحيى، ووزير اسمه نجم، وكان الوزير يهوى ولد الملك، فبلغ به الحب حتى كتب على فض خاتمه (نجم عشق يحيى) فوشى به بعض أعدائه إلى الملك؛ فدعاه ولامه على عشقه لولده؛ وكتابته ذلك على خاتمه؛ وتهدده بالوعيد الشديد؛ فأنكر أنه يعشقه وقال: إنما كتبت في خاتمي دعاء وتوسلا باسم سورة من القرآن وهو (بحم عسق نجني) فصحف النون بباء موحدة؛ والجيم بحاء مهملة والشين المعجمة بالمهملة؛ واليائين المثناتين من تحت بنونين؛ والحاء المهملة بجيم.
ومن بديعه قول الشيخ عز الدين الموصلي لما بلغه وفاة القاضي فتح الدين -وكان يرجح جانب الشيخ عز الدين بن المزين على جانب عز الدين الموصلي، لبغض كان في خاطره لا لاستحقاق:
دمشق قالت لنا مقالا ... معناه في ذا الزمان بين
اندمل الجرح واسترحت ... نفسي من الفتح والمزين
هذا ذكره ابن حجة في شرح بديعته ولم يبين وجه المواربة فيه. وقد خفي على بعضهم وجهها وهو في قوله: الفتح، فأنه إنما قصد فتح الدين بن الشهيد، حتى إذا أنكر عليه ذلك قال: إنما قلت: القيح، فيصحف الفاء بالقاف؛ والتاء المثناة من فوق بالياء المثناة من تحت، وهو مناسب للجرح.
وقريب من ذلك أن الوزير أبا محمد بن سفيان من وزراء المغرب كتب إلى أبي أمية بن عصام: عين زمانه، فوقعت نقطة على العين، فتوهمها وظن أنه أبهمها.
فكتب إليه الوزير أبو محمد:
لا تلزمني ما جنته يراعة ... طمست بريقتها عيون ثنائي
حقدت علي لزامها فتحولت ... أفعى تمج سمامها بسخاء
غدر الزمان وأهله عرف ولم ... أسمع بغدر يراعة وإناء
وشاهد المواربة بالحذف، قول أبي نواس في خالصه جارية الرشيد هاجيا لها وكانت سوداء:
لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع حلي على خالصة
فلما بلغ الرشيد ذلك تهدده بسببه فقال: لم أقل ذلك وإنما قلت:
لقد ضاء شعري على بابكم ... كما ضاء حلي على خالصة