وهذا وقذفي بالحصى لك مخبر ... بأن النوى بي عن ديارك تقذف
وحاذر نفاري ليلة النفر أنه ... سريع فقل من بالعيافة أعرف
فلم أر مثلينا خليلي مودة ... لكل لسان ذو غرارين مرهف
وبعده وهو مثال التفويف بالجمل الطويلة:
إلا أنه لولا أغن مهفهف ... وأشنب براق واحور أوطف
لراجع مشتاق ونام مسهد ... وأيقن مرتاب وأقصر مدنف
ومن ذلك قول النابغة أيضاً:
فلله عينا من رأى أهل قبة ... أضر لمن عادى وأكثر نافعا
وأعظم أحلاما واكبر سيدا ... وأفضل مشفوعا إليه وشافعا
وقول ابن عنين:
دعت في أعالي السعد يوما حمامة ... على فنن في ظل ريان باليم
فهاجت مشوقا واستفزت متيما ... وأبكت غربيا واستخفت أخا حلم
وقول الآخر:
ولو أن ما بي بالجبال لدكدكت ... وبالنار أطفاها وبالماء لم يجر
وبالناس لم يحيوا وبالدهر لم يكن ... وبالشمس لم تطلع وبالنجم لم يسر
وقول بديع الزمان الهمداني:
ما الليث مقتحما والسيل مرتطما ... والبحر ملتطما والليل مقتربا
أمضى شبا منك أدهى منك صاعقة ... أجدى يمينا وأدنى منك مطلبا
وكاد يحيك صوت الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
وقوله من قصيدة يذكر فيها أباه ويمدح خلف بن أحمد والي سجستان:
يذكرني قرب العراق وديعة ... لدى الله لا ينسيه مال ولا أهل
إذا ورد الحجاج وافي رفاقهم ... بفوارتي دمع هما النجل والسجل
يسائلهم كيف ابنه أين داره ... إلى م انتهى لم يعد هل له شغل
أضافت به حال أحالت أطالت له يد ... أأخره نقص أقدمه فضل
يقولون وافي حضرة الملك الذي له الكنف المألوف والنائل الجزل
فقيد له طرف وحلت له حبي ... وخير له قصر ودر له نزل
المثال في البيت الثالث والرابع والأخير.
ومثاله بالجمل المتوسطة قول أبي الوليد بن زيدون:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعا حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أنك إن حملت قلبي ما ... لا تستطيع قلوب الناس يستطع
ته أحتمل واحتكم أصبر وعزَّاهن ... ودل أخضع وقل أسمع ومراطع
المثال البيت الأخير.
ومثال ما جاء بالجمل القصار قول المتنبي:
يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من قبل الإحسان لا قبلي
أقل أنل اقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل ادن سر صل
روي أنه لما انشد أبو الطيب سيف الدولة هذه القصيدة التي هذان البيتان منها، وناوله نسختها وخرج، نظر فيها سيف الدولة، فلما انتهى إلى هذا البيت المفوف وقع تحت (أقل) قد أقلناك، وتحت (أنل) أنلناك وتحت (اقطع) قد أقطعناك الضيعة الفلانية ضيعة بباب حلب، وتحت (أحمل) يقاد إليك الفرس الفلاني، وتحت (عل) قد فعلنا -وهو من العلو- وتحت (سل) قد فعلنا، قاسل -وهو من السلو- وتحت (أعد) قد أعدناك إلى حالك من حسن رأينا، وتحت (زد) يزاد كذا، وتحت (تفضل) قد فعلنا، وتحت (ادن) قد أديناك، وتحت (سر) قد سررناك.
قال ابن جني: فبلغني عن المتنبي أنه قال: إنما أردت (سر) من السرية فأمر له بجارية، وتحت (صل) قد وصلناك.
قال: وحكى لي بعض أخوننا: أن المعقلي وهو شيخ بحضرته ظريف قال له -وحسد المتنبي على ما أمر له به-: يا مولاي (قد فعلت) به كل شيء سالكه، فهلا قلت له لما قال لك (هش بش) هه هه هه - يحكي الضحك- فضحك سيف الدولة، وقال: وأعطيناك أيضاً ما تحب، وأمر له بصلة.
ولما أنشد المتنبي هذا البيت المفوف رآهم يعدون ألفاظه فزاد فيه وقال:
أقل أنل أن صب أحمل عل سل عد ... زد هش بش هب اغفر أدن سر صل
أن من الأون، وهو الرفق. وصب، من صلب السهم الهدف يصيبه يقال: صاب وأصاب أو من صابت السماء بالمطر.
وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز في كتاب الوساطة: أن أبا الطيب نسج على منوال ديك الجن حيث قال:
أحل وامرر وضر وانفع ولن ... وأخشن ورش وابر وانتدب للمعالي
وقال الواحدي: أصل هذه الطريقة من قول امرئ القيس: