فالأول كقوله تعالى: (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) ، أقسم سبحانه بقسم يوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجل عظمة، لا يشاركه فيها غيره، ولا يطمح إليها نظر أحد سواه.
وعن بعض الأعراب، أنه لما سمع هذه الآية، صاح وقال: من ذا الذي أغضب الجليل حتى الجأه إلى اليمين؟.
ومن الغايات في ذلك قول مالك الأشتر رحمه الله:
بقيت وفري وانحرفت علن العلى ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس
خيلا كأمثال السعالي شزبا ... تعدو ببيض في الكريهة شوس
حمي الحديد عليهم فكأنه ... ومضان برق أو شعاع شموس
فتضمن هذا الشعر الوعيد بالقسم بما فيه الفخر العظيم من الجود والكرم، والشرف والسؤدد، والبسالة والشجاعة. وهذا الرجل كان من أمراء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، شديد الشوكة على من خالف أمره. ويعني بابن هند: معاوية بن أبي سفيان. ولعمري لقد بر قسمه في صفين، وأبلى بلاء لم يبله غيره.
قال بعضهم: لقد رأيت الأشتر في يوم من أيام صفين مقتحما للحرب وفي يده صفيحة يمانية كأنها البرق الخاطف، إذا هو نكتها كادت تسيل من كفه، وهو يضرب بها قدما كأنه طالب ملك.
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: لله أم قامت عن الأشتر؛ لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى لم يخلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلا أستاذه علي بن أبي طالب عليه السلام، لما خشيت عليه الإثم. ولله در القائل وقد سئل عن الأشتر: ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام وقد هزم موته أهل العراق. وبحق ما قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام: كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
واقتفى أثر الأشتر في أبياته المذكورة في القسم، أبو علي البصير يعرض بعلي بن الجهم فقال:
أكذبت أحسن ما يظن مؤملي ... وهدمت ما شادته لي أسلافي
وعدمت عاداتي التي عودتها ... قدما من الأسلاف والأخلاف
وغضضت من ناري ليخفى ضوءها ... وقريت عذرا كاذبا أضيافي
إن لم أشن على علي خلة ... تمسي قذى في أعين الأشراف
ومن الغايات هنا أيضاً قول الشريف الرضي رضي الله عنه:
ما أنا للعلياء إن لم يكن ... من ولدي ما كان من والدي
ولا مشت بي الخيل إن لم أطأ ... سرير هذا الأغلب الماجد
فإن أنلها فكما رمته ... أو لا فقد يكذبني رائدي
والغاية الموت فما فكرتي ... أسائقي أصبح أم قائدي
ومنه قول السيّد الفاضل السيّد أحمد بن عبد الصمد الحسيني البحراني رحمه الله:
لا بلغتني إلى العلياء عارفتي ... ولا دعتني العلى يوما لها ولدا
إن لم أمر على الأعداء مشربهم ... مرارة ليس يحلو بعدها أبدا
والثاني - وهو القسم بما يكون فيه تعظيم وتنويه لغير المتكلم، مثاله قوله تعالى: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) أقسم سبحانه بحياة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم تعظيما لشأنه وتنويها بقدره ليعرف الناس عظمه عنده، ومكانته لديه.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ما خلق الله، ولا ذرأ، ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) .
ومنه قوله تعالى: (وطور سينين وهذا البلد الأمين) . وقوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر) ، فإن في القسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذو الذكر المتضمن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه، والشرف والقدر ما يدل على المقسم عليه، وهو كونه حقا من عند الله غير مفترى كما يقوله الكافرون. ولهذا قال كثيرون: إن تقدير الجواب: إن القرآن لحق، وهذا يطرد في كل ما شأنه ذلك، كقوله تعالى: (ق والقرآن المجيد) .
ومن هذا الباب أقسام العباد بالله سبحانه وبشعائره، كقول أبي صخر الهذلي:
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره أمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الهجر
فيا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
وتبعه المولد وجمع بين ثلاث اقتباسات: