وابن منير هذا هو أبو الحسن أحمد بن منير بن مفلح الطرابلسي الملقب مهذب الملك، عين الزمان، الشاعر المشهور. قال ابن خلكان في الوفيات: من محاسن شعره القصيدة التي أولها - قلت: وفيه مثال النوع الرابع من القسم وهو الواقع في الغزل والتشبيب -:
من ركب البدر في صدر الرديني ... وموه السحر في حد اليماني
وأنزل النير الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسرواني
طرف رنا أم قراب سل صارمه ... وأغيد ماس أم أعطاف خطي
أذلني بعد عز والهوى أبدا ... يستعبد الليث للظبي الكناسي
أما وذائب مسك من ذوائبه ... على أعالي القضيب الخيزراني
وما يجن عقيقي الشفاه من ال ... ريق الرحيقي والثغر الجماني
لو قيل للبدر من في الأرض تحسده ... إذا تجلى لقال ابن الفلاني
أربى علي بشتى من محاسنه ... تألفت بين مسموع ومرئي
إباء فارس في لين الشآم مع ال ... ظرف العراقي والطرف الحجازي
وما المدامة في الألباب أفتك من ... فصاحة البدو في ألفاظ تركي
وأما الخالديان اللذان حذا ابن منير حذوهما في قصيدته التترية المذكورة، فهما: أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم.
قال الثعالبي في يتيمة الدهر: إن هذان لساحران، يغربان فيما يجلبان ويبدعان فيما يصنعان. وكان ما يجمعهما من أخوة الأدب، مثلما ينظمهما من أخوة النسب؛ فهما في الموافقة والمساعدة يحييان بروح واحدة؛ ويشتركان في قرض الشعر وينفردان، ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان. وكانا في التساوي والتشابك والتشاكل والتشارك.
كما قال أبو تمام:
رضيعي لبان شريكي عنان ... عتيقي رهان حليفي صفاء
بل كما قال البحتري:
كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يعل موع فرقد عن فرقد
بل كما قال أبو إسحاق الصابي فيهما:
أرى الشاعرين الخالديين سيرا ... قصائد يفنى الدهر وهي تخلد
جواهر من أبكار لفظ وعونه ... يقصر عنها راجز ومقصد
تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومر جدال بينهم يتردد
وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلا بالتي هي أرشد
هما في اجتماع الفضل زوج مؤلف ... ومعناهما من حيث يثبت مفرد
كذا فرقدا الظلماء لما تشاكلا ... علا أشكلا هذاك أم ذاك أمجد
فزوجهما ما مثله في اتفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد
فقاموا على صلح وقال جميعهم ... رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد
وما أعدل هذه لحكومة من أبي إسحاق فما منهما إلا محسن يحطب في حبل الإبداع ما أراد، ويكاد بمحاسنه وبدائعه الإفراد.
فمن محاسن شعر أبي بكر وهو الأكبر منهما قوله:
لو أشرقت لك شمس ذاك الهودج ... لأرتك سالفتي غزال أدعج
أرعى النجوم كأنها في أفقها ... زهر الأقاحي في رياض بنفسج
والمشتري وسط السماء تخاله ... وسناه مثل الزئبق المترجرج
مسمار تبر أصر ركبته ... في فص خاتم فضة فيروزج
وتمايل الجوزاء يحكي في الدجى ... ميلان شارب قهوة لم تمزج
وتنقبت بخفيف غيم أبيض ... هي فيه بين تخفر وتبرج
كتنفس الحسناء في المرآة إذ ... كملت محاسنها ولم تتزوج
وقوله:
حور رحلن وقد جعلن وداعنا ... بمدامع نطقت ونحن سكوت
فعيونها سبج ونثر دموعها ... درر وحمر خدودها ياقوت
وقوله في مرثية الحسين عليه السلام:
إذا تفكرت في مصابهم ... أثقب زند الهموم قادحه
بعضهم قربت مصارعه ... وبعضهم بعدت مطارحه
أظلم في كربلاء يومهم ... ثم تجلى وهم ذبائحه
لا برح الغيث كل شارقة ... تهمي غواديه أو روائحه
على ثرى حله غريب رسو ... ل الله مجروحة جوارحه
ذل حماه وقل ناصره ... ونال أقصى مناه كاشحه
ومنها:
عفرتم بالثرى جبين فتى ... جبريل بعد الرسول ماسحه
يطل ما بينكم دم ابن رسو ... ل الله وابن السفاح سافحه
سيان عند الأنام كلهم ... خاذله منكم وذابحه
ومن محاسن شعر أبي عثمان قوله:
نيل المطالب بالهندية البتر ... لا بالأماني والتأميل للقدر