أما الجناس التامس ويسمى الكامل، فهو ما تماثل ركناه لفظاً وخطا واختلفا معنى من غير تفاوت في تركيبهما ولا اختلاف في حركاتهما، سواء كان من اسمين أو فعلين، أو من اسم وفعل، أو اسم وحرف. فإن كان من نوع واحد سمي مماثلاً، أو من نوعين سمي مستوفى. وهذا الجناس من أكمل أصناف التجنيس وأرفعها رتبة، وأولها في الترتيب الأصلي، وشاهده من القرآن الكريم، قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعةٍ) قيل: وليس في القرآن العظيم من صنف التام غير هذه الآية. وقول بعضهم: أن في كونها من الجناس التام نظراً لكون الساعة الأولى التي بمعنى القيامة، منقولة من الساعة الثانية التي هي جزء من أجزاء الجديدين، ليس بشيء. لأن النقل لا يضر ويكفي في ذلك اختلاف المعنى. وقد استخرج ابن حجر من القرآن جناساً آخر تاماً وهو قوله تعالى: (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) فالأبصار في الآية الأولى جمع البصر الذي هو النظر، وفي الآية الثانية جمع البصر الذي هو العقل.
ومن الشعر قول ابن الرومي:
للسود في السود آثار تركن بها ... وقعاً من البيض يثني أعين البيض
وقول الراجز:
يا عامر بن مالك يا عما ... أفنيت عما وجبرت عما
أراد بالعم الأول أخا أبيه، وبالثاني الجمع الكثير. يقول: أفنيت قوماً وجبرت آخرين.
وقول الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى:
يا ويح قلبي من دواعي الهوى ... إذا رحل الجيران عند الغروب
أتبعتهم طرفي وقد أزمعوا ... ودمع عيني كفيض الغروب
بانوا وفيهم طفلة حرة ... تفتر عن مثل أقاح الغروب
فالغرب الأول: غروب الشمس، والثاني: جمع غرب وهو الدلو العظيمة المملوءة، والثالث: جمع غرب وهو الوهدة المنخفضة. وقول أبي العلاء المعري، ونبه على الجناس فيه مع التغزل البديع:
معانيك شتى والعبارة واحد ... فطرفك مغتال وزندك مغتال
فمغتال الأول، من اغتاله بمعنى أهلكه، والثاني بمعنى الغيل بالفتح وهو الساعد الريان الممتلي، وقوله أيضاً:
لم تلق غيرك إنساناً نلوذ به ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا
وزعم الحاتمي أن أفضل تجنيس وقع لمحدث، قول عبد الله بن طاهر ذي اليمينين:
وإني للثغر المخوف لكالي ... وللثغر يجري ظلمه لرشوف
ومنه قول الغزي:
وخز الأسنة والخضوع لناقص ... أمان عند ذوي النهي مران
والرأي أن تختار فيما دونه ال ... مران وخز أسنة المران
وقول أبي الفتح البستي:
يا أكثر الناس إحساناً إلى الناس ... وأحسن الناس أعراضاً عن الناسي
نسيت وعدك والنسيان مغتفر ... فاعذر فأول ناسٍ أول الناس
وقولي في مطلع قصيدة:
يا هماماً له المعالي قصور ... لا تلمني أن عن مني قصور
وقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
أيهٍ بذكر معاهد وأناس ... طابت بذكر حديثهم أنفاسي
أذكرنني حيث الأحبة جيرة ... حالي بهم حالي وكاسي كاسي
وقولي من مطلع قصيدة:
إليك فقلبي لا تقر بلابله ... إذا ما شدت فرع الغصون بلابله
وقلت بعد المطلع:
تهيج له ذكرى حبيب مفارق ... زرود وحزوى والعقيق منازله
سقاهن صوب الدمع مني ووبله ... منازل لا صوب الغمام ووابله
بحل بها من لا أصرح باسمه ... غزال على بعد المزار أغازله
تقسمه للحسن عبلٌ ودفة ... فرن وشاحاه وصمت خلاخله
وما أنا بالناسي ليالي بالحمى ... تقضت وورد العيش صفو مناهله
ليالي لاظبي الصريم مصارم ... ولا ضاق ذرعاً بالصدود مواصله
وكم عاذل قلبي وقد لج في الهوى ... وما عادل في شرعة الحب عاذله
يلومونه جهلاً عليه وإنما ... له وعليه بره وغوائله
فلله قلب قد تمادى صبابة ... على اللوم لا تنفك تغلي مراجله
وبالحلة الفيحاء من أبرق الحمى ... رداح حماها من قنا الخط ذابله
تميس كما ماس الرديني مائداً ... وتهتز عجباً مثل ما اهتز عامله
مهفهفة الكشحين طاوية الحشا ... فما مائد الغصن الرطيب ومائله
تعلقتها عصر الشبيبة والصبا ... وما علقت بي من زماني حبائله