ولما حضرت لتوديعه ... وطرف النوى نحونا أشوس
عكست له بيت شعر مضى ... يليق به الحال إذ يعكس
لئن سافرت عنك أجسادنا ... لقد قعدت معك الأنفس
وقال بعضهم:
إذا ما رأيت فتى ماجدا ... فظن بعقل أبيه السخف
فقد يلد النجب غير النجيب ... وهل يلد الدر إلا الصدف
وعكسه الآخر فقال:
إذا ما رأيت فتى ماجدا ... فكن بابنه سيئ الاعتقاد
فلست ترى من نجيب نجيبا ... وهل تلد النار غير الرماد
ومن هذا الباب ما حكاه علي بن عبد الله الجعفري، من بني جعفر الطيار عليه السلام - وكان ممن حمله المتوكل من المدينة إلى سر من رأى، وحبسه مع الطالبيين - قال: - مكثت في الحبس مدة، فدخل علي يوما رجل من الكتاب فقال: أريد هذا الجعفري الذي تديث في شعره، فقلت له: إلي فأنا هو، فعدل إلي وقال لي: جعلت فداك أحب أن تنشدني بيتيك اللذين تديثت فيهما.
فأنشدته:
ولما بدا لي أنها لا تودني ... وأن هواها ليس عني بمنجلي
تمنيت أن تهوى سواي لعلها ... تذوق حرارات الهوى فترق لي
قال: فكتبهما، ثم قال: اسمع - جعلت فداك - بيتين قلتهما في الغيرة، فقلت: ما هما؟ فأنشدني:
ربما سرني صدودك عني ... فلا طلابيك وامتناعك مني
حذار أن أكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التمني
انتهى. فهذان البيتان عكس فيهما هذا الكاتب قول الجعفري.
ومنه أيضاً ما حكاه محمد بن يحيى التغليب قال مررت بجعفر بن عفان الطائي يوما وهو على باب منزله فسلمت عليه فقال: مرحبا يا أخا تغلب اجلس، فجلست فقال لي: أما تعجب من ابن أبي حفصة حيث يقول:
أنى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
فقلت بلى والله، أني لأتعجب منه، وأكثر اللعنة له. فهل قلت في هذا شيئا؟ قال نعم قلت:
لم لا يكون وإن ذاك لكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
للبنت نصف كامل من ماله ... والعم متروك بغير سهام
ما للطليق وللتراث وإنما ... صلى الطليق مخافة الصمصام
وعلى ذلك قال صالح بن عطية الأضجم لما قال مروان بن أبي حفصة: عاهدت الله أن أغتاله فأقتله أي وقت أمكنني ذلك، وما زلت ألاطفه وأبره، وأكتب أشعاري، حتى خصصت به فأنس بي جدا، وعرف ذلك بنو حفصة جميعا فأنسوا بي، ولم أزل أطلب له غرة حتى مرض من حمى أصابته، فلم أزل أظهر الجزع عليه والإشفاق حتى خلا لي البيت يوما، فوثبت عليه فأخذت بحلقه، فما فارقته حتى مات، وخرجت وتركته؛ فخرج إليه أهله بعد ساعة فوجدوه ميتا، وارتفعت الصيحة؛ فحضرت وتباكيت، وأظهرت الجزع عليه، حتى دفن وما فطن بما فعلت أحد، ولا اتهمني. انتهى. ذكر ذلك في الأغاني.
وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح اللامية، حكى ابن رشيق في الأنموذج: أن عبد الرحمن بن محمد الفراسي جلس مع بعض شيوخ تونس، وكان الشيخ نهاية في المجون، فاجتاز بهم رجل، فسأل عن دار ابن عبدون؛ فأقبل الشيخ عليه فقال: هي في تلك الرابعة حيث يقوم أيرك، فقال الفراسي: والله لأنظمنه فما رأيت مثل هذا المعنى.
وأنشأ من وقته يقول:
إن شئت أن تعرف عن صحة ... دار الذي يعزى لعبدونه
فامش فإن أيرك أبصرته ... قام فإن الباب من دونه
قال: وقد عكست أنا هذا المعنى فقلت:
أقول لمن يسائل عن محلي ... تقدم وامش من خلف السواري
ومر فحيث ما تلقى حكاكا ... بسرمك لا تعد فثم داري
انتهى. ومثال عكس الشاعر معنى نفسه قول بعضهم:
وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا
وقول الآخر وأجاد:
ها قد غدا من ثياب الشعر في كفن ... وقد تعفت معاني وجهه الحسن
وكان يعرض عني حين أبصره ... فصرت أعرض عنه حين يبصرني
وأحسن منه قول نجم الدين يعقوب بن صابر المنجنيقي:
وجارية من بنات الحبوش ذات جفون صحاح مراض
تعشقتها للتصابي فشبت ... غرما ولم أك بالشيب راضي
وكنت أعيرها بالسواد ... فصارت تعيرني بالبياض
وأرباب البديعيات إنما بنو أبياتهم على النوع الأول من العكس.
فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: