للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومن بحر المواليا وهو مشهور عند المتأخرين, واصله من البسيط "والطير محشورة كل له أواب". ومنه "لو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا".

وسبب تسميته بالمواليا, ما يحكى من أن الرشيد لما قتل جعفر البرمكي أمر أن لا يرثى بشعر, فرثته جارية له بهذا الوزن, حيث لم يكن من الشعر المعروف, وهي تندب وتقول: يا مواليا, فسمي بذلك.

ويقال: أن أول بيت قالته في هذا الوزن هذا البيت:

يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس ... أين الذي قد حموك بالقنا والترس.

قالت تراهم رمم تحت الأراضي درس ... سكوت بعد فصاحة السنتهم خرس

ويستعذب في هذا الوزن اللحن, وكونه ملحوناً أحسن من كونه معرباً.

وإذا تأملت اشتمال القرآن العظيم على جميع أوزان هذه البحور المذكورة, بل وعلى غيرها مما لم نذكره علمت أن ذلك كله مندرج تحت قوله - علت كلمته وعظمت قدرته - "ما فرطنا في الكتاب من شيء". سبحانه "لا إله إلا هو إليه المصير".

ومن النثر المسجم الذي جاء موزوناً من غير قصد لقوة الانسجام, قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنا النبي لا كذب ... أنا عبد المطلب

قيل: وقوله أيضاً صلى لله عليه وآله وسلم,_

هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت

والصواب ما ذكره الجلال السيوطي, قال: قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر, حدثني محمد بن عبد الله, عن الزهري؛ عن عروة, قال: خرج سلمة بن هشام, وعياش بن ربيعة, والوليد بن الوليد مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فطلبهم ناس من قريش ليردوهم فلم يقدروا عليهم.

فلما كانوا بظهر الحرة قطعت إصبع الوليد بن الوليد فقال:

هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت.

فدخل المدينة فمات بها. انتهى.

وعلى هذا فيحتمل أن الوليد قصد بذلك الشعر, فلا يكون مما نحن فيه.

ومنه قول إبراهيم بن العباس الصولي الشاعر المشهور فيما كتبه عن الخليفة إلى بعض البغاة الخارجين يتهددهم ويتوعدهم: أما بعدد فإن لأمير المؤمنين أناة, فإن لم تغن عقب بعدها وعيداً, فإن لم يغن أغنت عزائمه والسلام. فإن هذا النثر مع وجازته وإبداعه في غاية الانسجام.

وينشأ منه بيت يشعر وهو:

أناة فان لم تغن عقب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه

وأما الانسجام في النظم فأمر يضيق عن الإحاطة به نطاق الحصر والإحصاء, ويقصر دون منال جله - فضلاً عن كله - باع الضبط والاستقصاء, غير أنا نورد منه هنا نبذاً مستطرفة, وقطعاً من رياض محاسن الشعر مقتطفة, ونبتدئ فيه من شعراء الجاهلية إلى شعراء أهل العصر.

فمنه قول امرئ القيس في معلقته:

تسلمت عمايات الرجال علن الصبا ... وليس فؤادي عن هواك بمنسل

ومنها:

أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل

وقوله من أخرى:

وظلت في دمن الديار كأنني ... نشوان باكره صبوح مدام

هذا البيت لو مزج بأرق شعر لمهيار الديلمي أو من هو في طبقته لامتزج امتزاج الراح بالماء القراح.

ومثله قوله أيضاً:

حلت لي الخمر وكنت امرءاً ... عن شربها في شغل شاغل

وقوله:

وكل مكارم الأخلاق صارت ... إليه همتي وبه اكتسابي

فقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب

وقوله:

ولو أنني أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنني أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

هذا ما وقع عليه الاختيار من ديوانه في هذا النوع من غير استقصاء له.

ومنه قول زهير بن أبي سلمى:

فما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه آبائهم قبل

وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النحل

وقوله أيضاً:

قوم سنان أبوهم حيث تسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأخلاقهم أو مجدهم قعدوا

وقوله أيضاً:

لعمرك والخطوب مغيرات ... وفي طول المعاشرة التقالي

لقد باليت مظعن أم أو في ... ولكن أوفى لا تبالي

وقوله:

قد جعل المبتغون الخير من هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا

<<  <   >  >>