للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال: حدث الحارث بن همام قال: نبا بي مألف الوطن, في شرخ الزمن, لخطب خشي, وخوف غشي. فأرقت كأس الكرى, ونصصت ركاب السرى, وجبت في سيري وعورا لم تدمثها الخطى, ولا اهتدت إليها القطا, حتى وردت حمى الخلافة, والحرم العاصم من المخافة. فسروت إيجاس الروع واستشعاره, وتسربلت لباس الأمن وشعاره. وقصرت همي على لذة أجتنيها, وملحة أجتليها فبرزت يوما إلى الحريم لأروض طرفي, وأجيل في طرقه طرفي. فإذا فرسان متتالون, ورجال منثالون, وشيخ طويل اللسان, قصير الطيلسان, وقد لبَّبَ فتى جديد الشباب, خلق الجلباب, فركضت في أثر النظارة, حتى وافينا باب الإمارة. وهناك صاحب المعونة متربعا في دسته, ومروعا بسمته. فقال له الشيخ: أعز الله الوالي وجعل كعبه العالي, إني كفلت هذا الغلام فطيما, وربيته يتيما, ثم لم آله تعليما, فلما مهر وبهر؛ جرد سيف العدوان وشهر, ولم أخله يلتوي علي ويتقح حتى يرتوي مني ويلتقح. فقال له الفتى: علام عثرت مني حتى تنشر هذا الخزي عني؟ فو الله ما سترت وجه برك, ولا هتكت حجاب سترك, ولا ألغيت تلاوة شكرك, ولا شققت عصا أمرك. فقال له الشيخ: ويلك وأي ريب أخزى من ريبك؟ وله عيب أفحش من عيبك؟ وقد أدعيت سحري واستحلقته, وانتحلت شعري واسترقته. واستراق الشعر عند الشعراء, أفظع من سرقة البيضاء والصفراء, وغيرتهم على بنات الأفكار كغيرتهم على البنات الأبكار. فقال الوالي للشيح: وهل حين سرق سلح أم مسخ أم نسخ؟ فقال: والذي جعل الشعر ديوان العرب, وترجمان الأدب, ما أحدث سوى أن بتر شمل شرحه, وأغار على ثلثي سرحه.

فقال له أنشد أبياتك برمتها, ليتضح ما احتازه من جملتها. فقال:

يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار

دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا بعدا لها من دار

وإذا أظل سحابها لم ينتقع ... منه صدى لجهامه الغرار

غاراتها ما تنقضي وأسيرها ... لا يفتدى بجلائل الأخطار

كم مزدهى بغرورها حتى بدا ... متمردا متجاوز المقدار

قلبت له ظهر الجن وأولغت ... فيه المدى ونزت لأخذ الثار

فاربأ بعمرك أن يمر مضيعا ... فيها سدى من غير ما استظهار

واقطع علائق حبها وطلابها ... تلق الهدى ورفاهة الأسرار

وارقب إذا ما سالمت من كيدها ... حرب العدى وتوثب الغدار

واعلم بأن خطوبها تفجا ولو ... طال المدى وونت سرى الأقدار

فقال له الوالي ثم ماذا صنع هذا؟ قال: أقدم للؤمة في الجزاء, على أبياتي السداسية الأجزاء فحذف منها جزأين, ونقص من أوزانها وزنين, حتى صار الرزء فيها رزءين. فقال: بين ما أخذ ومن أين فلذ. فقال: أرعني سمعك, وأخل للتفهم عني ذرعك, حتى تتبين كيف أصلت علي وتقدر قدر اجترامه إلي.

ثم أنشد وأنفاسه تتصعد:

يا خاطب الدنيا الدني ... ة إنها شرك الردى

دار متى ما أضحكت ... في يومها أبكت غدا

وإذا أظل سحابها ... لم ينتقع منه سدى

غاراتها ما تنقضي ... وأسيرها لا يفتدى

كم مزدهى بغرورها ... حتى بدا متمردا

قلبت له ظهر المجن وأولغت فيه المدى

فاربأ بعمرك أن يمر ... مضيعا فيها سدى

واقطع علائق حبها ... وطلابها تلق الهدى

وارقب إذا ما سالمت ... من كيدها حرب العدى

وأعلم بأن خطوبها ... تفجا ولو طال المدى

فالتفت الوالي إلى الغلام وقال: تبا لك من خريج مارق, وتلميذ سارق. فقال الفتى: برئت من الأدب وبنيه, ولحقت بمن يناويه ويقوض مبانيه, إن كانت أبياته نمت إلى علمي, قبل أن ألفت نظمي. وإنما اتفق توارد الخواطر, كما قد يقع الحافر على الحافر. انتهى ما أردنا إيراده من هذه المقامة.

وأغرب ما وقع من هذا النوع ما جاء من غير قصد الشاعر, وقد وقع كثير منه في شعر المتأخرين.

فمنه قول الشيخ العارف عفيف الدين التلمساني من قصيدة أولها:

باكر إلى داعي الصبوح صباحا ... واجعل زمانك كله أفراحا

واجل التي تجلو همومك في الدجى ... حتى ترى لظلامه مصباحا

يا طالب الراحات ليس ينالها ... إلا الذي في الراح يجلو الراحا

أو مغرم أعطى الصبابة حقها ... تدعوه صبوته إليه كفاحا

<<  <   >  >>