للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وزعم الجاحظ أن هذا النوع - أعني المذهب الكلامي - لا يوجد منه شيء في القرآن, ورد بأنه مشحون به.

قال العلماء: قد اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة. ما من برهان, ولا دلالة وتقسيم وتحديد ينهي من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطب به, لكن أورده على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين, لأمرين: أحدهما, بسبب ما قاله (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) .

والثاني, أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجلي من الكلام, فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون, لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزا, فاخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجلى صورة لتفهم العامة من جليها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة, ويفهم الخواص من أثنائها ما يربي على ما أدركه فهم الخطباء.

ومن بديع ما ورد من هذا النوع في القرآن المجيد قوله تعالى (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد وتفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) .

فإنه تعالى ذكر الدليل على فساد قول من يضيف هذه الحوادث إلى الطبع, وحرره على وجه أسقط كثيرا من الأسئلة, بأن بين أن في الأرض قطعا متجاورات يقرب بعضها من بعض, ليسقط قوله من قال: إن الأرض إذا تباعدت أطرافها اختلفت التربة, وكان منها الطيب والخبيث, لأن ذلك يبعد في المتقارب منها. وكذلك الهواء لا يمكن أن يدعى أن تغيره هو المؤثر لأن الأراضي ما لم يتباعد بعضها من بعض لا يظهر في أهويتها التغير, وكذلك الماء إذا كان واحدا لا يمكن لأحد أن يدعي أن اختلاف الأكل راجع إلى اختلاف الماء. فدل بذلك كله أنه بفعل القادر الحكيم, تبارك وتعالى.

فينبغي للمتأمل أن يتأمل هذا الكلام, ويتصفح كلام المتكلمين, هل لشيء منه هذا الحسن الرائع؟ فإنه تعالى جمع فيه بين حسن المعنى وشرف الموضوع, وجزالة اللفظ وعذوبته, مع جمع المقاصد الكثيرة في ألفاظ يسيرة, ربط بعضها ببعض بحيث حسم عنها مطاعن المعترض, فسبحانه من صانع عليم.

ومنه قوله تعالى أيضا: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) أي الإعادة أهون وأسهل عليه من البدء, وكل ما هو أهون فهو أدخل في الإمكان. فالإعادة أدخل في الإمكان وهو المطلوب.

وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام (فلما أفل قال لا أحب الآفلين) أي القمر آفل وربي ليس بآفل, فالقمر ليس بربي.

وقوله تعالى: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) أي أنتم تعذبون والبنون لا يعذبون, فلستم ببنين له.

ومما ورد منه في الحديث, ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزل قوله تعالى: (وانذر عشيرتك الأقربين) صعد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر, يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا, فجعل الرجل منهم إذا لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو. فجاء أبو لهب وقريش, فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا معشر قريش, أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم, ما جربنا عليك إلا صدقا, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فألزمهم الاعتراف أولا بأنه مخبر صادق, ليلزمهم تصديقه فيما يخبر به, ثم إذا أخبرهم حملهم اللجاج والعناد على أن لم يصدقوه. فقال أبو لهب - تبت يداه -: تبا لك لهذا جمعتنا؟ فنزلت سورة تبت.

ومنه قول أمير المؤمنين علي عليه السلام لما انتهت إليه أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, قال: ما قالت الأنصار؟ قالوا: قالت: منا أمير ومنكم أمير, قال عليه السلام: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أوصى بأن يحسن إلى محسنهم, ويتجاوز عن مسيئهم قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ فقال عليه السلام: لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم, ثم قال: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.

<<  <   >  >>