للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهل هذا إلا تهافت؟ وقد أورد الصفي وابن حجة لنوع التكميل أمثلة هي بنوع الاحتراس أولى, منها قوله تعالى "فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين". قال الصفي وتبعه ابن حجة: انه لو اقتصر سبحانه على قوله (أذلة على المؤمنين) كان مدحا تاما بالرياضة والانقياد لإخوانهم, فوصفهم أيضاً بالعز والمنعة والغلب بقوله (أعزة على الكافرين) انتهى.

والحق أن قوله (أعزة على الكافرين) احتراس, لأنه لو اقتصر على قوله (أذلة على المؤمنين) لأوهم أن الذلة لضعفهم فدفعه بقوله (أعزة على الكافرين) تنبيها على أن ذلك تواضع منهم للمؤمنين, ولهذا عدى الذل (بعلى) لتضمنه معنى العطف. قال التفتازاني: ويجوز أن يقصد بالتعدية (بعلى) الدلالة على أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضين لهم أجنحتهم. انتهى.

ومنها قول السموأل:

وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل

قال الصفي: فانه لما وصف قومه بأنهم لا يموتون موت الأذلاء والجبناء كمل مدحهم بأنهم مع ذلك لا يضيع لهم دم. انتهى.

والصحيح انه من الاحتراس أيضاً, فانه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم, لا وهم إن ذلك لضعفهم وقلتهم, فأزل الوهم بوصفهم بالانتصار.

قال ابن حجة ومن التكميل الحسن قول كثير عزة:

لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها

قال: فقوله (عند موفق) تكميل حسن, فانه لو قال: عند محكم لتم المعنى, لكن في قوله (عند موفق) زيادة تكميل بها حسن البيت, والسامع بجد لهذه اللفظة من الموقع في النفس ما ليس في الأولى, إذ ليس كل محكم موفق, فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله. انتهى.

واعترض بان الشاعر لم يقل: عند محكم حتى يكون قوله: موفق, تكميلا لذكر محكم لما تم المعنى بدونه فلا يكون من هذا النوع.

قال ابن حجة أيضاً: وقد غلط غالب المؤلفين في هذا الباب, وخلطوا التتميم بالتكميل, وساقوا في باب التتميم شواهد التكميل, فمن ذلك قول عوف الخزاعي:

إن الثمانين وبلِّغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

هذا البيت ساقوه من شواهد التتميم, وهو أبلغ شواهد التكميل, فإن معنى البيت تام بدون لفظة (وبلغتها) وإذا لم يكن المعنى ناقصا فكيف يسمى هذا تتميما؟ وإنما هو تكميل حسن. انتهى كلامه.

قلت: لئن غلط من خلط التتميم بالتكميل, فقد غلط ابن حجة فخلط التكميل بالاعتراض. والبيت المذكور أبلغ شواهد الاعتراض, وقد أنشده هو أيضاً شاهدا عليه. وليس كل زيادة جيء بها مع تمام المعنى تسمى تكميلا وإلا لم يبق بين الاعتراض والتكميل فرق. بل التكميل الزيادة التي جيء بها تكميلا للمعنى الأول الذي ذكره المتكلم, والاعتراض هو الزيادة التي جيء بها لنكتة ليس الغرض بها تكميل المعنى السابق. وكذلك قوله في البيت (وبلغتها) فإنها زيادة جاء بها الشاعر للدعاء لا لتكميل غرضه من الاعتذار الذي قصده. على ما يحكى: أن عوف بن محلم الخزاعي صاحب البيت سلم عليه عبد الله بن طاهر, فلم يسمع, فأعلم بذلك, فدنا منه وأنشده قصيدة منها البيت المذكور. وبذلك يتضح الفرق بين الاعتراض والتكميل والتتميم.

وأما الفرق بين التكميل والتتميم, فهو أن التتميم يرد على المعنى الناقص فيتم, والتكميل -كما علمت- يرد على المعنى التام فيكمله, إذ الكمال أمر زائد على التمام.

وأنشد ابن حجة ممثلا للتكميل قول الشيخ جمال الدين بن نباتة:

نفس عن الحب ما حادت ولا غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت

قال: معنى البيت تام بدون قوله (وقاك الله) ولكن التكميل بوقاك الله قبل قوله (قد قتلت) لا يصدر إلا من مثل الشيخ جمال الدين. انتهى.

وقد علمت أن هذا من باب الاعتراض لا التكميل. وأنشد أيضاً لنفسه أبياتا أكثرها من هذا القبيل.

ومن الشواهد الصحيحة للتكميل قول أبي تمام:

فتى عند خير الثواب وشره ... ومنه الإباء المر والكرم العذب

وقوله:

يتلو رضاه الغنى بأجمعه ... وتحذر الحادثات من غضبه

تزل عن عرضه العيوب وقد ... تنشب كف المغني في نشبه

وقول البحتري:

هل العيش إلا أن تساعفنا النوى ... بوصل سعاد أو يساعدنا الدهر

على أنها ما عندها لمواصل ... وصال ولا عنها لمصطبر صبر

<<  <   >  >>