للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومن يعص أطراف الزجاج فانه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم

أراد أن يقول: من لم يرض بأحكام الصلح, فكنى عنه بقوله: ومن يعص أطراف الزجاج, وذلك أنهم كانوا إذا طلبوا الصلح قلبوا زجاج الرماح وجعلوها قدامها مكان الأسنة, وإذا أرادوا الحرب أشرعوا الأسنة وأخروا الزجاج.

وقد تجمع في البيت كنايتان الغرض منهما واحد, ولكن لا تكون إحداهما كالنظير للأخرى, بل كل واحدة منهما أصل بنفسه كقوله:

وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل

فقوله: جبان الكلب مهزول الفصيل, كنايتان, الغرض منهما واحد, وهو كونه كثير الأضياف, لأن كثرة ترددهم على داره تجبن الكلب عن الهرير في وجوههم, وكثرتهم لديه تقتضي أن لا يبقى في ضرع المتلية إذا حلبها ما يغتذي به فصيلها.

قال بعضهم: ولا يعدل عن التصريح إلى الكناية إلا لسبب, ولها أسباب: أحدها: قصد المدح, كأكثر الأمثلة المذكورة.

الثاني: قصد الذم, كقولهم كناية عن الأبله: عريض القفا, فإن عرض القفا وعظم الرأس مما يستدل به على بلاهة الرجل.

الثالث: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل كقوله تعالى "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة" فكنى بالنعجة عن المرأة كعادة العرب في ذلك, لأن ترك التصريح بذكر النساء أجمل, ولهذا لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا مريم عليها السلام. قال السهيلي: وإنما ذكرت مريم باسمها على خلاف عادة الفصحاء لنكتة وهي: أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ, ولا يبتذلون أسمائهن, بل يكتفون عن الزوجة بالعرس, والعيال ونحو ذلك, فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسمائهن عن الذكر. فلما قالت النصارى في مريم ما قالوا صرح الله باسمها ولم يكن تأكيدا للعبودية التي هي صفة لها, وتأكيدا لأن عيسى لا أب له وإلا لنسب إليه.

ومن ذلك قول الشاعر:

ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام

كنى بالنخلة عن المرآة.

الرابع: أن يكون التصريح مما يستهجن ذكره, كما كنى الله سبحانه عن الجماع بالملامسة, والمباشرة, والإفضاء, والسر, والدخول, والغشيان. وكنى عنه أو عن المعانقة باللباس في قوله "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن". وكنى عن البول ونحوه بالغائط في قوله "أو جاء أحد منكم من الغائط" وأصله المطمئن من الأرض. وكنى عن قضاء الحاجة بأكل الطعام في قوله في مريم وابنها "كانا يأكلان الطعام" وكنى عن الاستاه بالأدبار في قوله "يضربون وجوههم وأدبارهم".

أخرج ابن أبي حاتم في هذه الآية عن مجاهد قال: يعني أستاهم, ولكن الله يكني. حكي أن عبد الله بن الزبير قال لامرأة عبد الله بن حازم: أخرجي المال الخفي الذي وضعته تحت أستك, فقالت: ما ظننت أن أحدا يلي شيئا من أمور المسلمين يتكلم بهذا. فقال بعض الحاضرين: أما ترون الخلع الخفي الذي أشارت إليه.

ومن الحجاج أنه لام عبد الرحمن بن الأشعث: عمدت إلى مال الله فوضعته تحت ذيلك. فكنى لئلا يعاب بما عيب به ابن الزبير.

ومنه قول امرئ القيس:

فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال

كنى بالذلة عن إسعافها وتمكينها إياه من قضاء وطره.

لخامس: قصد المبالغة كقوله تعالى "ولما سقط في أيديهم" كناية عن اشتداد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل, لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها, لأن فاه قد وقع فيها. السادس: قصد الاختصار, كالكناية عن ألفاظ متعددة بلفظ فعل نحو "لبئس ما كانوا يفعلون" "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" "فأتوا بسورة من مثله", إلى غير ذلك من الأسباب التي لا يكاد يضبطها الحصر.

ثم الكناية أن لم يكن الانتقال منها إلى المطلوب بواسطة فقريبة, كقولهم كناية عن طول القامة: طويل النجاد, وإن كان بواسطة فبعيدة, كقولهم كناية عن المضياف: كثير الرماد, فانه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدر, ومنها إلى كثرة الطبائخ, ومنها إلى كثرة الأكلة, ومنها إلى كثرة الضيفان, ومنها إلى المقصود. وبحسب قلة الوسائط وكثرتها تختلف الدلالة على المقصود وضوحا وخفاء.

وبيت بديعية الصفي قوله:

كل طويل نجاد السيف يطربه ... وقع الصوارم كالأوتار والنغم

ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.

وبيت بديعية العز الموصلي قوله:

<<  <   >  >>