الإبداع, بالباء الموحدة, هو أن يكون البيت من الشعر, أو الفصل من النثر, أو الجملة المفيدة مشتملا على عدة ضروب من البديع, ولم يوجد في هذا النوع من الكلام مثل قوله تعالى "وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين" فإنها اشتملت على ثلاثة وعشرين نوعا من البديع وهي سبعة عشر لفظة: ١- المناسبة التامة: بين (ابلعي) و (اقلعي) .
٢- الاستعارة فيهما.
٣- الطباق: بين (الأرض) و (السماء) .
٤- المجاز: في قوله (يا سماء) فإن الحقيقة: يا مطر السماء.
٥- الإشارة: في (وغيض الماء) فانه عبر به عن معان كثيرة, لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء, وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء, فيغيض الحاصل على وجه الأرض من الماء.
٦- الأرداف: في قوله (واستوت على الجودي) فانه عبر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظ المعنى.
٧- التمثيل: في قوله (وقضي الأمر) فانه عبر عن هلاك الهالكين, ونجاة الناجين بلفظ بعيد عن المعنى الموضوع.
٨- التعليل: فإن غيض الماء علة الاستواء.
٩- صحة التقسيم: فانه استوعب أقسام الماء حالة نقصه, إذ ليس إلا احتباس ماء السماء, والماء النابع من الأرض, وغيض الماء الذي على ظهرها.
١٠- الاحتراس: في قوله (وقيل بعدا للقوم الظالمين) إذ الدعاء يشعر بأنهم استحقوا الهلاك احتراسا من ضعيف يتوهم أن الهلاك لعمومه ربما شمل غير مستحق.
١١- المساواة: لأن لفظ الآية لا يزيد على معناها.
١٢- حسن النسق: فإنه تعالى قص القصة, وعطف بعضها على بعض بحسن الترتيب.
١٣- ائتلاف اللفظ مع المعنى: لأن كل لفظة لا يصلح معها غيرها.
١٤- الإيجاز: فانه تعالى أمر فيها ونهى, وأخبر ونادى, ونعت وسمى, وأهلك وأبقى, وأسعد وأشقى, وقص من الأنباء ما لو شرح لجفت الأقلام.
١٥- التسهيم: لأن أول الآية يدل على آخرها.
١٦- لأن مفردتها موصوفة بصفات الحسن, كل لفظة سهلة مخارج الحروف, عليها رونق الفصاحة, سليمة عن التنافر, بعيدة عن البشاعة وعقادة التركيب.
١٧- حسن البيان: لأن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام, ولا يشكل عليه شيء منه.
١٨- الاعتراض: وهو قوله (وغيض الماء واستوت على الجودي) .
١٩- الكناية: فانه لم يصرح بمن غاض الماء, ولا بمن قضي الأمر وسوى السفينة, ولا بمن قال: وقيل بعدا, كما لم يصرح بقائل: يا أرض أبعلي ويا سماء اقلعي في صدر الآية, سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية, إن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائل: يا أرض أبلعي ويا سماء, ولا أن يكون غايض ما غاض, ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل غيره.
٢٠- التعريض: فانه تعالى عرض بسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما, وإن الطوفان وتلك الهمور الهائلة ما كانت إلا لظلمهم.
٢١- التمكين: لان الفاصلة مستقر في محلها, مطمئنة في مكانها.
٢٢- الانسجام: لأن الآية بجملتها منسجمة كالماء الجاري في السلاسة.
٢٣- الإبداع: الذي هو شاهد هذا النوع: وفي هذه الآية الكريمة تفريعات أخر مثل: أن الاستعارة منها في موضعين, والمجاز في موضعين, وأمثال ذلك مما يستنبط بقوة النظر والاستقراء بمعرفة الناقد البصير, وقد أفردت بلاغة هذه الآية بالتأليف.
وفي العجائب للكرماني: أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية, بعد أن فتشوا جميع كلام العرب والعجم فلم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها, وحسن نظمها, وجودة معانيها في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
ذل النضار كما عز النظير لهم ... بالبذل والفضل في علم وفي كرم
قال في شرحه: فيه من البديع: المطابقة, والتجنيس, والتمثيل, والتسجيع, واللف والنشر, والاحتراس, والتمكين, والكناية, والمبالغة؛ والإيغال؛ والاستنباع, والتسهيم, وائتلاف اللفظ مع المعنى, وائتلاف اللفظ مع الوزن. فهذه أربعة عشر نوعا من البديع زائدة على عدد لفظات البيت.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع, ولا السيوطي, ولا الطبري.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
كم أبدعوا روض عدل بعد طولهم ... وأترعوا حوض فضل قبل قولهم