منها التوكيد, كقوله تعالى "كلا سوف تعلمون, ثم كلا سوف تعلمون". فالتكرير تأكيد للردع والإنذار, فقوله: كلا: ردع وتنبيه, على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن يكون الدنيا جميع همه, وأن لا يهتم بدينه. وسوف تعلمون: إنذار, ليخافوا فينتبهوا من غفلتهم, أي سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه, إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله. وفي الإتيان بلفظ (ثم) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول, كما تقول لمن تنصحه, أقول لك: لا تفعل ثم لا تفعل, وذلك لأن أصل ثم للدلالة على تراخي الزمان, لكنها قد تجيء لمجرد التدرج في درج الارتقاء, من غير اعتبار التراخي والبعد بين تلك الدرج, ولا لأن الثاني بعد الأول في الزمان, وذلك إذا تكرر الأول بلفظ الأول نحو والله ثم والله. وكقوله تعالى "وما أدريك ما يوم الدين, ثم ما أدريك ما يوم الدين".
وقول كثير عزة:
فو الله ثم الله ما حل قبلها ... ولا بعدها مخلوقة حيث حلت
ومنها زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة والإيقاظ من سنة الغفلة, ليكمل تلقي الكلام بالقبول, كما في قوله تعالى "وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد, يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع" فانه كرر فيه النداء لذلك.
ومنها تذكر ما قد بعد بسبب طول الكلام, وهذا التكرير قد يكون مجردا عن رابط كما في قوله تعالى "ثم أن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا أن ربك من بعدها لغفور رحيم".
وكما في قول الشاعر:
لقد علم الحي اليماني أنني ... إذا قلت أما بعد إني خطيبها
وقد يكون مع رابط كما في قوله تعالى "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبهم بمفازة من العذاب", فقول: فلا تحسبهم, تكرير لقوله: لا تحسبن الذين يفرحون, لبعده من المفعول الثاني.
ومنها زيادة التوجع والتحسر كما في قول الحسين بن مطير:
فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
ومنها التهويل نحو "الحافة ما الحافة" و"القارعة ما القارعة".
ومنها زيادة الاستبعاد كما في قوله تعالى "هيهات هيهات لما توعدون".
وقول الشاعر:
وهيهات هيهات العقيق وأهله ... وهيهات خل بالعقيق نواصله
ومنها زيادة المدح كقول أبي تمام:
بالصريح الصريح والأروع الأر ... وع منهم وباللباب اللباب
ومنها التعظيم كقوله تعالى "وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين".
ومنها التلذذ بذكر المكرر كما في قوله:
سقى الله نجدا والسلام على نجد ... ويا حبذا نجد على النأي والبعد
نظرت إلى نجد وبغداد دونه ... لعلي أرى نجدا وهيهات من نجد
فكرر لفظة نجد خمس مرات لتلذذه بذكرها, كما قيل:
أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
ومنها التنويه بشأن المذكور, كقول أبي الطيب:
العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن الفارض الهتن ابن الفارض الهتن
وقول ابن النبيه: الطاهر النسب ابن الطاهر النسب اب_ن الطاهر النسب ابن الطاهر النسب وقد عاب قوم علي أبي الطيب هذا التكرار وقالوا: انه من العي تكرار اللفظ.
قال العكبري في شرحه: سمعت شيخي أبا الفتح يقول: إن كان هذا من العي, فحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصله, فقد قال عليه السلام: الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وأما ابن الأثير فانه عاب ألفاظ البيت من حيث هي, واستثقل لفظ العارض والهتن وقال: لو قال بدل العارض, السحاب, لم يكن هجنا. وليس كما زعم, فإن لفظ العارض والهتن فصيح عذب.
وقال ابن وكيعك لولا انتهاء القافية لمضى في العارض الهتن إلى آدم عليه السلام. وبانتهاء الغاية أعلمنا أن نهاية عدد آبائه المستحقين للمدح ثلاثة ثم يقف هناك.
وأحسن من هذا قول البحتري:
الفاعلون إذا لدينا بجودهم ... ما يفعل الغيث في شؤبوبه الهتن
فجاء بالمعنى عاما من غير عدد ولا لفظ مستبرد, فهو أرجح كلاما وأحسن لفظا.
وما أشبه برد بيت أبي الطيب ببيت قاله امرؤ القيس وهو:
ألا أنني بال على جمل بال ... يقود بنا بال ويتبعنا بال