فإن الألطاف إنما تجري بحسب القابليات، وعلى طبق المصالح، ليكون اللطف ناجعا فيه، إذ التكليف وإن أوجب فعل اللطف بالعبد، ولكن الحكمة تقتضي ألا يفعله الله بمن علم أن له فيه لطفا. ولهذا قال تعالى في قوم غلبت عليهم شقوتهم "ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم".
قال جار الله: لو علم في هؤلاء الصم البكم انتفاعا باللطف للطف بهم. وعلم تعالى أن لأمير المؤمنين عليه السلام في العصمة لطفا فعصمه، ثم كلما تم له استعداد فعل أوجبته الإرادة وأبرزته القدرة من مكمن القوة على مجلى الفعل، إن علمه الله تعالى وشاء وقدره وقضاه وأمضاه. فظهر أن هذه الألطاف ليست عللا تاما للطاعات، ولا مؤثرات مستقلة فيها، بحيث لا يكون لقدرة العبد فيها تأثير، فيخرج بها عن حيز الاختيار، ويدخل في باب الاضطرار، ولا يكون له سعي ولا كسب فيما يأتي ويذر- كما زعمه هذا المطبوع على قلبه- وإنما هي معدات ومباد قريبة، والجزء الأخير من العلة التامة هي الإرادة الموجبة لما هو راجح في معيار العقل من الطرفين.
ومن هنا فسر سيدنا المرتضى رضي الله تعالى عنه العصمة بأنها اللطف الذي يفعله الله بالعبد فيختار عنده إيثار الطاعة والامتناع عن المعصية، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحققه، وكون الفاعل موجبا في قبول فعل لكونه مفطورا عليه لا ينافي كونه مختارا في إخراجه من القوة إلى الفعل، وبهذا تنحل عقدة التشكيك فيما ورد في طينة المؤمن وطينة الكافر، بأنه يستلزم الجبر، حتى أنكر صحة ذلك بعض من لم يعض في العلم بضرس قاطع.
واعلم أن هذا الشاعر قد شبه رسوخ ملكتي التقى والبر في النفس بالانطباع على الغرائز بجامع عدم الانفكاك عنها، ثم استعار للمشتبه اسم المشبه به، واشتق منه صيغة المفعول على سبيل الاستعارة التبعية، أو أضمر في النفس تشبه التقى والبر الراسخين في النفس بالغرائز التي يطبع عليها، وأومأ إلى التشبيه بأن أثبت للمشبه لازما من لوازم المشبه به وهو الجبل على طريق الاستعارة المكنية والتخيل. أو سمى قابلية التقى والبر التي جبل عليها باسميهما، من باب تسمية الشيء باسم ما من شأنه أن يؤول إليه، على نهج المجاز المرسل.
ومع التنزيل عن هذه المرتبة فالإيجاب في غريزة من الغرائز الفاضلة إنما ينافي استحقاق الحمد عليها استحقاق المدح بها. ومع التنزيل عن هذه المرتبة أيضاً من أين يلزم أن يكون وصف صاحبها بها هجوا له؟ وهل في وصف الشمس بالضياء ذم لها؟ أو في إطراء إنسان بالعقل إزراء عليه لولا نصب أبي مجالد؟ .
والجواب عن الشبهة الثانية مسبوق بتمهيد مقدمة وهي: إن أهل القبلة قد اختلفوا في حقيقة نزول الملائكة يوم بدر، فقال الجمهور: نزلوا من السماء إلى الأرض كما ينزل الإنسان من الموضع العالي إلى الموضع السافل، ونزله أصحاب المعاني على ما يناسب نزول المجردات من عالم العقل إلى عالم الخيال، فيكون التأييد بهم من باب تقوية الأرواح لإمداد الأشباح.