لو كان الواجب واحدًا منها لعيَّنها الله تعالى، لأن تكليف ذلك الواحد، مع ما أنه ليس إلى العبد معرفته سبيل، تكليف ما ليس في الوسع، وذا لا يجوز. ولأن الواجب والمختص بجهة الوجوب، لو كان واحدًا منها، لما جاز التخيير بينه وبين غيره، لأنه حينئذ يكون تخييرًا بين الواجب وغير الواجب، وفي ذلك إباحة الإخلال بالواجب، وذا لا يجوز.
فإن قيل: إنما جاز التخيير لما أن في علم الله تعالى أنه لا يختار إلا الواجب والمختص بتلك الجهة- قلنا: لو جاز من المكلفين مع كثرتهم وتفرق رأيهم وطول زمانهم وقوع المصلحة دون المفسدة اتفاقًا، لجاز وقوع التصديق بالأنبياء من جملة الكاذبين ممن لا يعرف الفصل بينهما اتفاقًا، ولجاز وقوع الفعل المُحْكَم ممن لا علم له به أصلًا- وهذا فاسد عند العقلاء. ولئن جاز ذلك، لم يخرج هذا من أن يكون تخييرًا من الله تعالى بين الواجب وغير الواجب، وإباحة الإخلال بالواجب- وهذا فاسد أيضًا، فإن الأمة مجمعة على أن المكفر بواحدة من الكفارات الثلاث لو كان قد كفر بغيرها، أجزأه وكان إتيانًا بما تعبد به، فلولا أن الكل واجب، لما جاز، ولما كان آتيًا بما تُعبد به.
فإن قيل: إنما جاز التخيير، لما أن لاختيار العبد تأثيرًا في جعل الفعل مصلحة وواجبًا، فإذا اختار واحدة منها صارت تلك الواحدة مصلحة وواجبًا، لأن الاختيار صادفها- قلنا: هذا السؤال يقتضي أن لا يكون الفعل مصلحة وواجبًا قبل الاختيار، والإجماع انعقد على ثبوت الوجوب قبل الاختيار، إما في واحدة منها أو في الكل، وكان يجب إذا كفر بغير هذه الأشياء الثلاثة أجزأه، لأن الاختيار صادفه.