للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن هذه الجهة جاءت عن السلف عبارات تنبئ عن هذه الحقيقة، ففسرها من لم يفهم مراد أهلها بأن هذا العلم كهانة.

قال علي بن المديني: جاء رجل لعبد الرحمن (يعني ابن مهدي)، فقال: يا أبا سعيد، إنك تقول للشيء: هذا صحيح، وهذا لم يثبت، فعمن تقول ذلك؟ قال عبد الرحمن: " أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال: هذا جيد، وهذا ستوق، وهذا نبهرج (١)، أكنت تسأل عمن ذلك، أو كنت تسلم الأمر إليه؟ "، قال: لا، بل كنت أسلم الأمر إليه، قال: " فهذا كذلك؛ لطول المجالسة أو المناظرة والخبرة " (٢).

قلت: فانظر كيف أعاده إلى أمر مدرك: طول مجالسة لأهله، وكثرة مناظرة فيه، وخبرة مكتسبة.

وكذلك انظر إلى مثله المضروب، فالصَّرَّاف يميَّز مزيَّفَ النَّقد من صحيحه، لا بصدفةٍ أو إلهام مجرد، بل بدراية ومعرفة، أكسَبَها طول الملازمة، وشُغْل الوقت في المعالجة.

المبرّزون من أئمة الحديث في معرفة علله:

حفَّاظ الحديث خلق كثير على مرِّ الأزمان، وإن شحَّ بهم هذا الزمان، لكنك لا تجد فيهم المتعرِّض إلى هذا الفن من فنون هذا العلم، إلا قليلاًَ، وذلك لما تقدمت الإشارة إليه، أن معرفة هذا العلم لا تقتصر على مجرد حفظ، فإذا كان في بعض من يحفظ الحديث من لا يميز علله الظاهرة وهم أكثر المعدودين في حفَّاظه، فكيف يفهم علله الباطنة؟

ولذا كان من عدَّ في العارفين به قلة في أئمة الأمة.


(١) ستُّوق، ونبهرج: نقد مُزيَّف.
(٢) أخرجه ابنُ عدي (١/ ١٩٨) ومن طريقه: البيهقي في " دلائل النُّبوة " (١/ ٣١) وإسنادُهُ صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>