المتأخرين صاروا إلى الحكم على الأحاديث على ما تقتضيه ظواهر الأسانيد، والتَّقليد لعبارات بعض متأخري العلماء في الحُكم على الرُّواة، دون مُراجعة لكلام أئمة الجرح والتَّعديل، إذ كثيراً ما يختلفون في الرّاوي، كذلك دون اعتبار للعلل الخفيّة في الرّوايات.
وأيضاً، رأوا للمتأخرين تساهلاً في إطلاق المصْطلحات، والتَّوسُع في قبول الحديث المعلول، بيْنما كان الأوّلون يردُّون مثل تلك الأحاديث.
ومن تساهلهم: تهوين العبارة في الرّواة، كإطلاق وصف (ضعيفٌ)، أو (فيه ضعفٌ) على الرّاوي الواهي السّاقط، مما يُسهِّل أمره، ويجعل حديثه مقبولاً ولو اعتباراً، من أجل خفّة هذا اللّفظ المتأخر في الجرح.
وكذلك يقولون في الحديث:(ضعيفٌ)، وهو في الواقع (موضوعٌ) مثلاً.
وأقول: لا ريْب في صحّة هذا المأخذ، لكن إطلاقه ليس بمحمود، فإنَّ لمتأخّري العلماء تحريراتٍ نافعةً في هذا العلم، كالحُفّاظ: أبي بكر البيهقيّ، والخطيب البغداديّ، وابن عبد البرّ الأنْدلسيّ، فأبي الحجاج المزّيّ، فالذّهبيّ، وابن كثير الدّمشقي، وابن قيّم الجوزيّة، وابن رجب الحنبليّ، فأبي الفضْل العراقيّ، فابن حجر العسقلانيّ، وغيرهم.
وإن كان التّساهل المشارُ إليه يقع من غيرهم، وربّما من بعضهم تارةً، فإنّه لا يصلح أن يقام النِّزاع المورثُ إعراضاً عند بعض النّاس عن تحريرات مثل هؤلاء الأعلام.
وهذا العلم في تحرير من تقدَّم جميعاً مرْجعه إلى طريقة المتقدّمين، فلا غنى لهم عن منهاج أهله، كمالك بن أنس، وشُعبة بن الحجَّاج، وسفيان الثّوريّ، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرّحمن بن مهديّ، وأحمد بن حنبل، وعليّ بن المدينيّ، ويحيى بن معين، والبُخاريّ، ومسلم بن الحجّاج، وأبي زُرعة الرّازيّ، وأبي حاتم الرازيّ، وأبي داود السّجستانيّ، والتّرمذي، والنّسائي، وإخوانهم من متقدّمي أئمة هذا الشّأن.