قوله تعالى:" إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض " وفى سورة براءة: "الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله " فتقدم فى آية براءة قوله: "فى سبيل الله " على قوله: "بأموالهم وأنفسهم " وفى الأنفال عكس ذلك فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك وخصوص كل من السورتين بما خصت به؟
والجواب عن ذلك أن آية الأنفال مقصود فيها مع المدحة تعظيم الواقع منهم من الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس وتغبيطهم بما من الله عليهم به من ذلك وتفخيم فعلهم الموجب لموالاة بعضهم بعضا فقدم ذكر الأموال والأنفس تبيها معرفا بموقع ذلك من النفوس وأنهم بادروا بها على حبها وشح الطباع بها كقوله:"وآتى المال على حبه "وليس تأخير هذا المجرور كتقديمه لأنه إنما يقدم حيث يقصد اعتناء وتخصيص وتنبيه على موقعه ومن نحو هذا قوله تعالى: " ولم يكن له كفوا أحد " وقد تقدم هنا فإنما قدم هذا تغبيطا لهم وإعظاما لفعلهم.
أما آية براءة فتعريف بأمر قد وقع مبنى على التعريف بالمفاضلة بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وبين من آمن وهاجر وجاهد فى سبيل الله بماله ونفسه بقصد رد من ظن أن السقاية وعمارة المسجد الحرام أفضل وعرف أن الإيمان وما ذكر معه أعظم درجة عند الله فلم يعرض هنا داع إلى تقديم ما قدم فى الأخرى فتمخضت فضيلة ذلك المجرور هنا فأخر.
وقد نص سيبويه رحمه الله على أن المجرور إنما يقدم حيث يكون مستقرا ويعنى بذلك الخبر نحو: عندك مال "ولكم فى الأرض مستقر " والقصد تخصيص كناية الإخلاص والتخصيص مقصود فى آية الأنفال ولم يقصد ذلك فى براءة ولا وقع المجرور فيها خبرا فوجب بمقتضى اللسان أن يقدم فى آية الأنفال قوله: "بأموالهم وأنفسهم " ويؤخر فى سورة براءة وقد وقع فى كل زاحدة من الآيتين فى كل من السورتين ما استدعى اتصال ما بعده به ولم يكن ايناسب لورود العكس فوضح وجه تخصيص الواقع فى كل من السورتين بموضعه والله أعلم.