الآية الأولى منها - قوله تعالى:(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)(الرحمن: ٧ - ٩)، للسائل أن يسأل عن وجه تكرر (لفظ) الميزان ثلاث مرات؟ ووجه تخصيص السورة بذلك؟
والجواب عن ذلك - والله أعلم - أن المراد بذكر الميزان إعلام العباد بما به قوام أحوالهم واستقامة أديانهم من إجراء أمورهم على العدل الذي أمر سبحانه في قوله:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(النساء: ٥٨)، وفي قوله:(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(المائدة: ٨)، وفي قوله:(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الحجرات: ٩)، وفي الحديث: إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة. وتكرر في الكتاب العزيز الوصية بالوفاء في الكيل والوزن المحسوسين لبيان الأمر فيهما فقال تعالى:(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ)(الإسراء: ٣٥)، وذك سبحانه من بخس فيهما، وجعل جزاءه الويل والهلاك فقال:(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)(المطففين: ١)، وأعلمنا سبحانه بعاقبة (قوم) شعيب، عليه السلام، في ذلك، وأخذهم بالصيحة وعذاب يوم الظلة، وأعلمنا سبحانه بوزن أعمال العباد يوم القيامة فقال تعالى:(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)(الأنبياء: ٤٧)، وتكررت الآيات والأحاديث معلمة بذلك ليشاهد العباد عظيم العدل واستيفاء جزاء الأعمال مرئياً محسوساً جارياً على مألوفهم في دنياهم مشاهداً للصالح والطالح على المعتقد المتقرر عند كافة أهل السنة. فلما كانت الاستقامة في الكيل والوزن مشعرة بالاستقامة فيما سواهما وتأكدا لأنفسهما (ولما وراءهما أكد سبحانه الأمر بذلك، وأخبر بوضعه للخلق فيالقيامة) ليمتثلوا بذلك أمره، فقال تعالى:(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)(الرحمن: ٧)، وقال مفسراً وآمراً:(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)(الرحمن: ٨ - ٩)، و (أن) في قوله: (أَلَّا تَطْغَوْا) يحتمل أن تكون علة أي لئلا تطغوا في الميزان، وأن تكون حرف عبارة وتفسير نائبة مناب أي ومقدرة لها كالواقعة في قوله تعالى:(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا)(ص: ٦)، وكرر لفظ الميزان جرياً على عادة العرب فيما لها به اعتناء وتهمم كقول الخنساء: