وأضربوا عن طرفي الإثبات والنفي إلى تقليد الآباء وقالوا:(بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)(الشعراء: ٧٤)، وحصل من جوابهم بمفهوم الإضراب ببل أن آلهتهم لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، إذ لو اتصفت بوجود هذه الصفات لما عدلوا إلى الإضراب.
فإن قيل إنما أضربوا عن أن يجيبوا بنفي أو بإثبات فكيف يقال: إن اعترافهم حاصل بأنها لا تسمع ولا تنفع ولا تضر؟ فأقول: لو وجدوا أدنى شبهة لتراموا عليها، فقد وضح أن جوابهم هنا بناء على ما بنوه جواباً عليه لا يمكن غيره إلا بمخالفتهم المحسوس لو أنهم قالوا: إنها تسمع أو تنفع أو تضر، أو نسبتهم أنفسهم إلى ما عذر لعاقل في ارتكابه، ولا شبهة لو أفصحوا جواباً بأنها لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ثم استمروا على عبادتهم إياها، فأضربوا عن ذلك إلى اعتمادهم على تعبد آبائهم، وجعلوا ذلك حجة على مرتكبهم على وهن هذا التعليق، ولهذا قيل لهم:(قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)(الأنبياء: ٥٤)، إن جوابهم هنا ببل لازم لما قصده، ولا يمكن بسقوطها، وإن جوابهم في آية الأنبياء لا يمكن فيه بل بوجه، فورد كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثاني أنه لا حامل على القول بأن القصة واحدة، وإذا أمكن أن يكون ذلك في محلين ووقتين لم يلزم اتحاد الجواب، فلا سؤال، والله أعلم.
الآية الخامسة قوله تعالى:(وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ)(الأنبياء: ٧٠)، وفي الصافات:(فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(الصافات: ٩٨)، هنا سؤالان: أحدهما: ما وجه الاختلاف مع اتحاد المقصود في الموضعين؟ والثاني: ما وجه اختصاص كل من الموضعين بما ورد فيه؟
والجواب عن السؤالين معاً: أن الخاسر عندنا من فقد ما بيده من مال أو سبب كان يعتمده لدنياه ومعاشه، أو محاولة فسدت عليه فساءت حاله، لذلك ومهما استحكمت حاله في ذلك كان أخسر، وقد جعل سبحانه في الخسران المبين من خسر الدنيا والآخرة، وأعلمنا تعالى أن الأخسرين لا يقام لهم (وزن في القيامة، قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا)(الكهف: ١٠٣) إلى قوله: (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)(الكهف: ١٠٥)، فلا أدون حالاً من هؤلاء. ولما أراد قوم إبراهيم، عليه السلام، به الكيد ألحقهم تعالى بهؤلاء عقوبة توافق مرتكبهم وسوء انتحالهم، والأخسرون هم الأسفلون، وهذا كان مطلب الكافر في الآخرة وتمنيه لو بلغه إلحاق من أضله من الجن