الآية الأولى منها: غ - قوله تعالى في قصة يحيى بن زكريا، عليهما السلام،: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)(مريم: ١٤)، وفي قصة عيسى، عليه السلام، (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)(مريم: ٣٢)، فاختلف الوصفان في الآيتين مع اتحاد مرماهما في السابق من ظاهرهما، فيسأل عن ذلك؟
والجواب عنه - والله أعلم - أن الله سبحانه وصف يحيى، عليه السلام، بعظم التقوى في قوله تعالى:(وَكَانَ تَقِيًّا)(مريم: ١٣)، وتقي فعيل من التقوى، وهو من أبنية المبالغة، فيفهم الوفاء بوجوه التقوى حتى لا يكون من الموصوف به معصية ولا تقصير، فقوله بعد:(وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)(مريم: ١٤)، المراد - والله أعلم - نفي للمعاصي جملة، وهو المراد بقوله في الموضع الآخر (وَسَيِّدًا وَحَصُورًا)(آل عمران: ٣٩)، أي ممنوعاً من المعاصي، والحصر الحبس والمنع، قال مكي، رحمة الله: حصر عن الذنوب فلم يأتها. وما قاله المفسرون من أن المراد هنا منعه من النساء بأي وجه قالوه فلا يصح، والله أعلم، لأن عدم القدرة على النساء نقص، والأنبياء منزهون عن النقص، فكيف يصح ورود هذا الوصف في معرض المدحة، وهو في نفسه نقص، والقوى في ذلك كمال ودحه، فالمراد هنا بالحصور الممنوع عن المعاصي، وقد روى (عمرو) بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا يحيى بن زكرياء)، ثم نوسب بين هذا الوصف وما تقدمه من قوله:(وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)، فورد بلفظ المبالغة مثله، والمراد نفي المعاصي عنه، عليه السلام، (جملة، والتناسب في هذا كله واضح).
وأما وقله في قصة عيسى، عليه السلام (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)(مريم: ٣٢) فملحوظ في ذلك ما جرى لأتباعه، عليه السلام، وما وقعوا (فيه) من العظيمة حين قالوا: هو ابن الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراًن فاستحقوا الوصف بالشقاء بمقالهم، والشقي مستحق لاعذاب الأخراوي. وإلى السعادة والشقاء انقسام العالم في الآخرة، قال تعالى:(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)(هود: ١٠٥)، فهما طرفا حصر العالم في الآخرة وهذا كقوله: