للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أما آية الرعد فلم يعرض فيها ما يحمل على ما ذكر من التناسب فجاءت من حيث أفردت على ما يجب من تقديم النفع الذي هو مطلب العاقل، وكأن قد قيل فيها: إذا لم ينفعوا أنفسهم فكيف ينفعونكم؟ ثم أتبع بما يكمل به التعريف بحال (من) اتخذوهم أولياء من أنها لا تضر ولا تنفع، فجاء كل على ما يجب ويناسب، ولا يمكن خلافه.

فإن قلت: إذا كان تقديم النفع - كما في سورة الرعد - وارداً على ما يجب من (حيث) هو الذي تطلبه نفوس العقلاء فلم بنيت تلك (الجمل) المعطوفات في آية سورة الفرقان على تأخير الأشرف في تلك المتقابلات حتى لزم أن يتقدم فيها الضر (قبل) النفع ليتناسب؟ وهلا كان بناؤها على عكس ذلك وكان يحسن التقابل (وورود النفع قبل الضر) كما في آية الرعد؟ قلت: لما تقدم قبل الجمل المذكورة في سورة الفرقان قوله سبحانه: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان: ٢)، ناسب هذا من ذكر آلهتهم وصفها بأنها لا تخلق فقيل: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (الفرقان: ٣)، ليحصل من وصفه سبحانه بأنه خالق كل شيء وأن آلهتهم لا تخلق شيئاً ما أفصح به من توبيخهم وتقريعهم في قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (النحل: ١٧)، وتناسب هذا أوضح تناسب وأبينه، ولا يمكن خلافه، ثم بني عليه ما بعده لتناسب ذلك كله، وحصل منه أن الوارد في كل من السورتين لا يمكن فيه العكس بوجه، ولابنا سبحانه أعلم بما أراد.

الآية الخامسة من سورة الرعد قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الرعد: ٢٦)، وفي سورة القصص: (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) (القصص: ٨٢)، وفي سورة العنكبوت: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (العنكبوت: ٦٢)، وفي سورة سبأ: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) (سبأ: ٣٩)، وفي الشورى: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الشورى: ١٢)، للسائل أن يقول: إن هذه الآيات الخمس قد انطوت مطابقة على معنى واحد هو إخباره سبحانه بأنه المنفرد بالقبض والبسط، كما أنفرد بالخلق والأمر، فإذا اجتمعت في هذا المعنى فما وجه انفراد آية القصص وآية سبأ بزيادة ما ورد فيهما من التخصيص في قوله: (مِنْ عِبَادِهِ) وقوله: ((له))؟ ولِمَ لَمْ يرد ذلك في السورة الأخرى؟

والجواب عنه، والله أعلم: أن آية العنكبوت لما تقدم قبلها في قصة إبراهيم، عليه السلام، قوله لقومه: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>