الآية الأولى منها - قوله تعالى:(إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(الجاثية: ٣ - ٥)، للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص كل آية من هذه الثلاث بما به خصت خواتمها من صفات المعتبرين بها، فقيل في الأولى:(لِلْمُؤْمِنِينَ)، وفي الثانية:(لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، وفي الثالثة:(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن خلق السماوات والأرض للمعتبر المنصف كاف في التصديق بحدوثهما وافتقارهما من حيث إن وجودهما أو عدمهما من قبيل الجائز، والتخصيص بأحد الجائزين لا يكون إلا بمخصص مقتض هذا الجائز الواقع، ثم ذلك المخصص لا يكون مماثلاً وإلا لافتقر إلى مخصص، وذلك مؤد إلى التسلسل وهو محال، وأيضاً فليس أحد المتماثلين في إيجاب حكم المماصلة بأولى مما يوجبه الآخر، وهذا كله محال، فلابد من صناع متعال عنه شبه المصنوع، منزه عن المماثل والنظير وسمات الحدوث، متصف بالكمال لكمال المصنوع وإتقانه، متصف بالعلم والقدرة والإرادة، إلى ما هو سبحانه أهله، وإذا حصل الاعتراف بالصانع علم المعترف بما ذكرنا أنه تعالى قادر على خلق ما يشاء، وإلى هذا أشار قوله تعالى:(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(يس: ٨١)، فمن اعتبر بالسماوات والأرض أو بخلقهما إذ يمكن في قوله:(إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أن يؤخذ على (أن) لا مضاف محذوفاً، وأن يكون على حذف المضاف، أي إن في خلق السماوات والأرض، وطريقة الاعتبار واحدة على التقديرين لمن اعتبروا، فمن اعتبر وأنصف آمن، قال تعالى:(إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الجاثية: ٣)، فحصل لهم الإيمان، فوسموا قبل حصوله بما يؤوله أمرهم - إذا اعتبروا - إليه، فهو من قبيل التسمية بالمآل، ومنه قوله تعالى:(إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا)(يوسف: ٣٦).
ثم قال تعالى:(وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(الجاثية: ٤)، والمراد أن المعتبر بالسماوات والأرض إذا حسن اعتباره وأنصف من نفسه حصل له الإيمان بالصانع سبحانه، فإذا أضاف إلى ذلك الاعتبار بخلق الإنسان وتطوره في الأرحام من حال النطفة، إلى حال العلقة، إلى حال المضغة، إلى حال العظام وكسوتها باللحم، إلى الإبراز