ولما كان أمر الليل والنهار منصوصاً على رحمة الخلائق بهما في عدة آيات بقوله تعالى:(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)(الإسراء: ١٢)، وقوله:(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)(غافر: ٦١)، وقوله:(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)(النبأ: ١٠ - ١١)، إلى غير هذه من الآيات، فتحصل من مجموعها وفاء الاعتبار بهما وما فيهما، ومستند ذلك المحرك للاعتبار به السماع والأخبار الواردة به أعقب بقوله:(لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)(الروم: ٢٣).
وأما إراءته سبحانه البرق خوفاً وطمعاً، وإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، فلا تحصل ثمرة الاعتبار به إلا لمن أطال الاعتبار وأمعن النظر وبالغ في ذلك، ولما كان حصول الثمرة المطلوبة هنا يتوقف على ما ذكر أعقب بقوله:(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
الآية الثالثة من سورة الروم - قوله تعالى:(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(الروم: ٣٧)، وفي سورة الزمر:(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)(الزمر: ٥٢)، ففي آية الروم:(أَوَلَمْ يَرَوْا) وفي الأخرى: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا)، فللسائل أن يسأل عن الفرق؟
والجواب، والله أعلم: أن سورة الروم لما تقدم فيها قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)(الروم: ٨)، وقوله تعالى:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(الروم: ٩)، والتفكر تردد نظر ومباثه واعتبار، والنظر المحال عليه فيما حضوا عليه من سيرهم في الأرض إنما هو استعلام وبحث واعتبار بحال من تقدمهم، ناسب ذلك قوله تعالى:(أَوَلَمْ يَرَوْا)، لأن قول القائل منا لغيره: ما ترى في هذا الأمر؟ إنما يريد ابحث عما يتردد في خاطرك ويختلج في فكرك وعرفني بما يظهر لك وتختاره، وكذا قول القائل: افعل في هذه القضية بما أراك الله، إنما يريد اجتهد وامض فيها من المتردد في خاطرك ما تراه أولى، والحاصل من الرأي هنا في مثل هذا غالب ظن وليس بعلم لإمكان الخطأ فيما يراه، إذ لسنا بمعصومين، ولو فرضنا العصمة لكان الحاصل علماً، وفي كتاب الله سبحانه قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فاحكم بينهم بما أراك الله، وإنما أحيل، عليه السلام، على اجتهاده والاعتبار بما لديه من الوحي وما أنزل عليه، إلا أنه، عليه لاسلام، على اجتهاده والاعتبار بما لديه من الوحي وما أنزل عليه، إلا أنه، عليه السلام، مكتنف بالعصمة والحفظ من الخطأ والغلط فيما يراه مما يرجع إلى التبليغ وتقعيد أحكام شريعته، فالحاصل