تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج: ٥)، فقد تكررت لفظة ((من)) هذه في هذا الآية في ستة مواضع، الخمسة منها قبل قوله:(مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) والواحدة بعدها، وكلها محرزة معناها الذي جيء بها من أجله إلا التي في قوله:(من بعد) إذ النظم مع سقوطها (ملتئم) والمعنى تام، فاستوى وجودها وعدمها، فاستعاها سياق آية الحج للتشاكل والتناسب في النظم، ولم يكن في آية النحل ما يستدعيها إذ لم يرد ما يقتضيها، فورد كل على ما يجب ويناسب، ولا يمكن العكس والأولى في قوله:(من البعث) لابتداء الغاية وما بعدها للتبعيض إلا التي في قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) فإنها زائدة رعياً للفظ لا النافية، وإن كانت هنا مزيدة.
الآية العاشرة من سورة النحل قوله تعالى:(أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)(النحل: ٧٢)، وفي العنكبوت:(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)(العنكبوت: ٦٧)، للسائل أن يسأل عن ثبوت الضمير المنفصل المبتدإ في قوله:(هُمْ يَكْفُرُونَ) في آية النحل وسقوطه من آية العنكبوت مع أن المعنى متحد والعبارة متكررة أعني قوله: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ .... ) الآية، فما وجه ذلك؟
والجواب، والله أعلم: أن الوارد في آية لانخل راجع إلى من قدم ذكرهم في قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ)(النحل: ٥٦)، وفي قوله:(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ)(النحل: ٥٧) إلى قوله: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)(النحل: ٦٠)، وقوله:(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً)(النحل: ٧٢)، فلما كان قوله:(أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) راجعاً إلى ما تباعد أتى بضميرهم المشعر بالبعد هو ضمير الغائبين فقيل: ((هم))، وارتفع بالإتيان به توهم عودة ضمير يُؤمنون إلى المقول لهم:(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً).
فإن قيل: لو قيل تؤمنون وتكفرون على الخطاب لكان للمخاطبين بقوله: (لكم)) أما على وروده على طريقة الإخبار عن الغائبين فلا يوهم ما ذكرت فلا ضرورة تدعو إلى