مِنْ عِنْدِنَا) لتمكن (عند) فيما قصد، وعلى الثاني:(رَحْمَةً مِنَّا) إذ ليس موقعها موقع (مِنْ عِنْدِنَا)، ثم قيل في الأولى:(وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) مناسبة لما تقدم، وقيل في الثانية:(لِأُولِي الْأَلْبَابِ) مناسبة أيضاً، إذ اعتبار أولي الألباب يورثهم مقام العابدين، وهو أسنى مقام، وكل ذلك بعد مقامات عليه وأوال جليلة، وقد جرى مع (كل) مقام ما يناسبه، ووضح أن كلاً من هذه المبينات على ما قبلها لا يناسبه غير ما بني عليه، والله أعلم.
وأما وجه خصوص الواقع في كل من السورتين بموضعه، فإن سورة الأنبياء لما رود فيها من قصص الأنبياء المذكورين قبل ذكر أيوب، عليه السلام، إعلاء مقاماتهم، ولم يرد في ذلك ما يخرج عن هذا، وذلك من لدن قوله تعالى:(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ)(الأنبياء: ٥١) إلى قوله: (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ)(الأنبياء: ٨٢)، ناسب ذلك من قصة أيوب، عليه السلام، ما يلائم هذا الغرض، فلما ورد في ص ما بني عليه قوله تعالى:(وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ)(ص: ٢٤) إلى قوله: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ... )(ص: ٢٥) وما بني عليه (قوله): (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا)(ص: ٣٤) ظغلى قوله: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي)(ص: ٣٥)، ناسب ذلك أيضاً ما أعقبت به من قصة أيوب، عليهم السلام، فتأمل الوارد من قصص داود وسليمان في قوله في الأنبياء:(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ)(الأنبياء: ٧٨) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)(الأنبياء: ٨٠)، والوارد من قصصهما في سورة ص، واعتبر ذلك، فإن الفرق في ذلك بين، وقد تنزل على كل من هذه القصص في السورتين ما يناسبهما من قصص أيوب، وإذا استوضحت ذلك علمت أن كلاً منهما لا يناسبهما من قصص أيوب، وإذا استوضحت ذلك علمت أن كلا منهما لا يناسبه غير موضعه، ثم إن كلا من الآيتين في السورتين قد جرى على ما اتصل به مما تقدمه وتأخر عنه من فواصل الآي ومقاطعها، فلو وردت على العكس لما ناسب آية منها ما اتصل بها، فحصل التناسب في اللفظ والمعنى على أوضح شيء، وأنه لا يمكن عكس الوارد على ما قد تمهد بوجه، والله أعلم بما أراد.
الآية السابعة من سورة الأنبياء قوله تعالى:(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا)(الأنبياء: ٩١)، وفي سورة التحريم:(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)(التحريم: ١٢)، فيسأل عن وجه الاختلاف في الضميرين مع اتحاد المعنى المقصود من الواقع به الثناء وإن اختلف الحامل على ذكر قصتها في الموضعين؟ وعن وجه اختصاص كل واحد من الموضعين بالوارد (فيه)؟
والجواب عن الأول، والله أعلم: بعد تسلمي اتحاد المعنى الواقع به البناء، إن الضمير في الأولى عائد إلى ما أشير إليه بالموصول الذي هو التي، وهي مريم ابنة عمران