للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والجواب: أن الآية الأولى تنزلت على ما ذكر قبلها ممن أهلك من القرون والأمم السالفة بتكذيبهم للرسل، ممن قال فيهم بعد تفصيل ذكرهم: (وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) (الحج: ٤٤)، وأما الآية الثانية فوقع قبلها ذكر اسنعجالهم العذاب تكذيباً واستبعاداً في قوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) (الحج: ٤٧)، فعرفوا بأن تأخيره عنهم إملاء للمكذبين به: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) (آل عمران: ١٧٨)، وقيل في حالهم في التكذيب واستبعاد وقوع العذاب، قد جرى لمن قبلهم من المكذبين ثم جاءهم ما كذبوا به وحل بهم ما استبعدوه فقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا) (الحج: ٤٨)، فاستعجالهم العذاب أوجب تعريفهم بحال غيرهم ممن ناسب حالهم لعلهم يتذكرون، يزيد ذلك بياناً قوله: (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (الحج: ٤٨)، وكأن الكلام في قوة أن لو قيل لهم: إنما يعجل من يخاف الفوت، أمّا إذا كان مرجع الكل ومصيرهم إليه فيأخذ المكذب متى شاء، وإن أخره فإملاه لزيادة مِحنِهَ، فوضح ما بين الآيتين، وأنه لا يمكن على ما تمهد وقوع واحدة منهما في موضع الأخرى، والله أعلم.

الآية الرابعة من سورة الحج قوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (الحج: ٤٧)، وفي سورة السجدة: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (السجدة: ٥)، وفي سورة المعارج: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج: ٤)، يسأل عن وجه الفرق؟ وما معنى تقدير اليوم بما ذكر تعالى؟

والجواب عنه، والله أعلم: أن المراد تبيين أفعال سبحانه، وأنه لا تكلف فيها ولا معالجة: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: ٨٢)، فكأن قد قيل لهم: إذا شاء هذابكم كان، فإنه سبحانه المتعالي عن التعاون والمعالجة والافتقار، فإذا قدر الشيء وأراد إنفاذه كان وتحصل في الوقت الوجيز القريب، منه ما تصدرون حصوله ومعالجة وقوعه في ألف سنة من أيامكم أو ما تقدرون تهيئة ونفوذه بألف سنة من أيامكم على مألوفكم، وإذا أراد سبحانه وقوع ذلك كان (عن أمره كن) أعجل من كل عاجل، إذ ليست أفعاله كأفعال خلقه التي يحتاجون فيها إلى العون والعلاج والآلات، تعالى الله عن شبه خلقه، فَلِمَ يستعجلون ما لا تكلف في وقوعه وحلوله؟ فإنما يمنع من استعجاله ربطه بأجل، إذا بلغ الأجل كان وقوعه، وهو يوم القيامة، وهو الأجل المسمى، ومن شاء تعجيل عذابه في دنياه أو ما شاء من امتحانه حل به إذا آن وقته، وتوقفه عمن قدره عليه إملاء وزيادة في امتحانه، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا) (الحج:

<<  <  ج: ص:  >  >>