كذبوك يا محمد، فهذا كله توبيخ للجاحدين والمعاندين، وتأمل ما افتتحت به السورة من قوله:(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(الزخرف: ٣)، والتعقل لا يستلزم الاهتداء والإيمان، ألا ترى قوله تعالى:(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(البقرة: ٧٥)، فأين موقع قوله:(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) من قوله: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) و (لَعَلَّكُمْ تُفِلحُونَ) و (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)؟ فتدبر ذلك يلح لك الفرق، فناسب هذا ما ينبئ عن الخلق والاختراع من غير زيادة، فعبر هنا بجعل.
وأيضاً فقد اكتنف لفظ جعل في الزخرف قوله:(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(الزخرف: ٣)، وقوله بعدها:(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ)(الزخرف: ١٢)، فناسب هذا ذكر الجعل، ولم يناسب هنا هذه المناسبة لفظ سلك، فجاء كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم.
الآية السادسة من سورة طه: غ - قوله تعالى:(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)(طه: ١١٢)، وفي سورة الأنبياء:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ)(الأنبياء: ٩٤)، فوردت آية طه منسوقة على ما قبلها بالواو، والثانية بالفاء المقتضية في مثل هذا استئناف التفصيل مع بنائه على ما قبله بمقتضى الفاء، ثم أعقب الأولى بقوله:(فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) والثانية بقوله: (فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) ومقصود الآيتين واحد، فللسائل أن يسأل عن الفرق؟
والجواب عن الأول: أن قوله: (ومن يعمل) بواو النسق ورد في مقابلة ما تقدمه من المعنى الحاصل من قوله: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)(طه: ١١١) وقد خاب من حمل ظلماً لأن عنت الوجوه ذلتها في القيامة، ومنه قولهم: العاني للأسير، فمن حمل ظلماً خاب وخسر، ومن قدم خيراً وعمل صالحاً فر يخاف ظلماً أي زيادة في سيئاته، ولا هضماً أي نقصاً في حسناته، وهذا معنى الكلام، والله أعلم، فهذا موضع الواو ولا مدخل فيه للفاء. أما قوله في الأنبياء:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ)(الأنبياء: ٩٤) فافتتح تفصيل أحوال الفريقين لما قال تعالى: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ)(الأنبياء: ٩٣)، والمراد اختلافهم وافتراقهم في المذاهب والأديان، ابتع ذلك تعالى ببيان حال المحسن والمسيء في افتراقهم، فاستؤنف تفصيل جزائهم فقال:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ)(الأنبياء: ٩٤) إلى ما بعد وفي قوله تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ