وأما الآية الثانية فإنه تعالى لما حكى عنهم قولهم منكريم للبعث الأخراوي:(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)(الجاثية: ٢٤) أي وما يهلكنا إلا تعاقب الأيام والليالي، فلم ينسبوا الإحياء والإماتة لفاعل مختار يميت ويحيي، وبنوا على ذلك إنكار العودة، أخبر تعاىل عنهم أنهم لا متعلق لهم إلا مجرد ظن لا مستند له فقال:(وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(الجاثية: ٢٤)، فأخبر تعالى أن مرجعهم إلى الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، وتناسب هذا واضح لا خفاء به.
الآية الثانية من سورة الزخرف قوله تعالى:(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(الزخرف: ٢٢)، ثم قال:(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(الزخرف: ٢٣)، للسائل أن يسأل عن الفرق الموجب لقول الفريق الأول:(وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) وقول الفريق الثاني: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) مع الاتفاق من جميعهم في قولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) أي على دين وملة، ثم وقع الاختلاف في وصف أنفسهم في اتباع آبائهم بالاهتداء والاقتداء؟
ووجه ذلك، والله أعلم: أن ما تقدم الآية الأولى خكاية قول كفار العرب المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسامعين منه القرآن المسمى هدى في غير موضع كقوله سبحانه: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)(البقرة: ٢)، وقوله:(هَذَا هُدًى)(الجاثية: ١١)، وقوله:(هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ)(لقمان: ٣)، فلما دعاهم صلى الله عليه وسلم ليهتدوا بهديه قابلوا دعاءه بقولهم: إنهم مهتدون وإنهم وجدوا آباءهم على أمة وإن ما وجدوهم عليه هدى، فقالوا:(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) أي على دين وإنا على آثارهم مهتدون كهديهم، فلما دعاهم زعموا أنهم على هدى، وهذا أبين تناسب.
وأما الآية الثانية فحكاية أقوال قرون مختلفة، وقد ذكر تعالى من قول بعضهم:(قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ)(الأنبياء: ٥٣)، وفي موضع آخر:(كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)(الشعراء: ٧٤)، فهذا اتباع مجرد عن ادعاء كونه هدى أو غير هدى، فهو اعتراف بتقليد واتباع تعظيم لفعل آباهم من غير ادعاء شبهة، فلم يكن ليطابق هذا إلا الوارد في قوله تعالى عنهم:(وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، فجاء كل على ما يناسب، والله أعلم.