للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى عالم الشهادة بشراً سوياً محكماً متناسب الأعضاء تام الخلق، إلى تدريجه بعد هذا، وكل ذلك من غير توقف شيء من صفاته وخواصه على اختيار أب أو أم، إلى اختلاف الألسنة والألوان والصور إلى ما يتعلق بذلك، واعتبر بخلق الحيوانات وما بث سبحانه في الأرض برها وبحرها من ذلك، وركون كل ذي شكل إلى شكله، وقيام أغذية الجميع بما يصلح لهم، وتسخير المسخر منها للآدمي وإيناسه، وتوحش المتوحش، وإجراء الجميع على اختلاف الأحوال في ذلك، ففي الاعتبار بذلك كله ما يثمر للمؤمن اليقين ويرقيه إلى أعالي درجات المتقين. ثم إذا اعتبر بما أشارت إليه الآية الثاثة، من اختلاف الليل والنهار، وتهيئة الليل للسكون والاستراحى والنهار للتصريف في المعاش والحاجات، وتداولهما كالمتعاوضين في الطول والقصر، وإيلاج أحدهما في الآخر إيلاجاً خفياً حتى لا يدخل أحدهما على الآخر دفعة فيضر (بأبصار) الحيوان، إلى ما يتعلق بهذا ويرجع إليه، فمن أحكم تدبر ذلك واعتبر به، واعتبر جري الرياح ومنافعخا من سوقها للسحاب والأمطار وإحياء الأرض بالماء النازل منها بعد موت الأرض وإخراجها ضروب النبات لانتعاش الحيوان ومصالحه، فإذا اعتبر المؤمن الموقن بهذا أعقبه ثبات يقينه وتمكن دينه فآمن وأيقن وعقل عن ربه، فانتفت الشبهات، وأفصحت بالبراهين الآيات، قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت: ٤٣).

فتأمل كيف جعل سبحانه تعقل الأمثال موقفاً على العالمين، وإنما تحصل لهم الاتصاف بأن كانوا عاللمين بما منحوه كم كمال عقولهم، فتبين التدريج الوارد في الآيات، وأنه لا يلائم آية منها ما ختم به غيرها، بل كان كل ختام من الأوصاف الثلاثة لا يليق بغير موضعه، وتأمل آية البقرة وهي قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) إلى قوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: ١٦٤) فأجمعت آية البقرة ما وقع في هذه الآيات الثلاث من سورة الجاثية منسوقاً ذلك بعضه على بعض غير مستأنف الابتداء للاعتبار به كما ورد في هذه الآي، بل ورد مجموعة في آية واحدة، كيف ختم ذلك بقوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) كما ختمت هذه الآي الثلاث بقوله: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إعلاماً بشرف العقل الذي به - بإذن الله - يحصل الإيمان ثم اليقين ثم الثبات المحصل للكمال بحصول العلم الحاصر لذلك كله.

سورة الأحقاف، قد تقدم ما فيها

*******

<<  <  ج: ص:  >  >>