ومن أهل النظر من يطلق العموم بمعنى منع الشركة، والذي لا يقول هذا لايمكنه إنكار الإبهام الإطلاقي وكيفما قيل فإن معنى التوسعة لا يفارقها، وليست ((الذي) كذلك، فكانت ((ما)) أملك بالمعنى المقصود في الموضع، ثم ناسبها وجرى معها ورودها في قوله:(بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ولم تكن ((الذي)) لتناسب فجاء كل على ما يجب.
وقوله في الآية الثانية:(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)(النحل: ٩٧)، الآية جارية مجرى الآية التي قبلها، و ((من)) أقرب لها من ((الذي)) لما بينهما من الاشتراك في المعاني التي لا تشاركها فيها ((الذي))، ألا ترى أن ((الذي)) لا تكون استفهاماً البتة، ولا نكرة موصوفة ولا مبهمة، إذ لا يفارقها التعريف. فإن قلت قد يدخلها معنى الشرط في نحو قوله: الذي يأتيني فله درهم، وهو المسوغ لدخول الفاء في خبرها في مثل هذا المثال ففيها إذ ذاك عموم. قلت ذلك متوقف على شروط معلومة، ولو لم يتوقف ذلك على شرط لبقي اشتراك فيما لا تدخل فيه ((الذي)). فمن على كل حال أجري مع ما يناسبها وما انجر معها من تقوية قصد الاستغراق من قوله:(مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)، وهذا المنجر في هذه الآية يقابل تكرار ما في الآية قبل، هذه كتلك بهذا النظير من غير فرق، فلم يكن ليناسب ذلك ورود ((الذي)) مكان ((ما)) في قوله: (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فتناسب هذا كله أوضح شيء، ولا يمكن في هاتين الآيتين ورود لفظ ((الذي)) مكان ((ما)) لمن لحظ المراعى في الآية من عليّ، نظم الكتاب العزيز، واعتبر التناسب الذي يعجز البشر عن محافظه رعية، ولا يمكن الوفاء به بوجه إلا في كتاب الله سبحانه.
وأما آية الزمر فوارده في معنى الخصوص المقصود به طائفة بعينها ألا ترى ما قبلها من قوله تعالى:(وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)(الزمر: ٣٣)، والمراد بالذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاذي صدق به متقدمو أصحابه ممن سبق وحسن تصديقه كأبي بكر، رضي الله عنه، ومن قارب حاله وجرى في (نحو) مضماره، وهؤلاء مخصوصون لا يشاركهم في حالهم غيرهم، وفيهم ورد ما بعد، وإليهم ترجع الضمائر من قوله:(هُمُ الْمُتَّقُونَ)، وقوله:(لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(الزمر: ٣٤)، وقوله:(لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ)(الزمر: ٣٥)، فلم يكن ليصلح هنا غير الأداة العهدية، فجاء ((بالذي)) في الموضعين من قوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الزمر: ٣٥)، ولم تكن ((ما)) لتناسب هنا لما تقدم، فجاء كل على ما يجب ويناسب، ولا يمكن فيه عكس الوارد في الضربين على ما تقدم، والله سبحانه أعلم.