فاعتراف تام منهم بوصفه سبحانه بالقدرة والعلم، وإذا اعترفوا بذلك لم يبق إلا العناد بما قدر عليهم، ومناسبة هذا الختام على ما تمهد من رعي الترتيب، وكأن هذه الآية الأخيرة في قوة أن لو قيل: وإذا حقق عليهم وتوبعوا في سؤالهم اعترفوا بالأمر على ما هو عليه، فكفرهم بعد ذلك اتباع للهوى وضلال على علم، والتناسب في هذا كله بين.
وأما آية العنكبوت الثانية وهي قوله تعالى:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)(العنكبوت: ٦٣) ثم قال: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)(العنكبوت: ٦٣) فوصف أكثرهم هنا بعدم العقل، فوجه ذلك - والله أعلم - التعريف بإفراط قصورهم حتى استحقوا الوصف بصفات البهائم ومن لا يصح خطابه، وذلك أن العقل فضل الإنسان، وبه امتيازه عن البهيمة، ولا يمكن العلم بشيء إلا بعد حصوله والاتصاف به، وهو مناط التكليف. وهو عند المتكلمين عبارة عن علوم ضوروية، وليس كل العلوم الضرورية، وهو مع هذا خصيصة جليلة إن عدمت لم يكن التكليف ولا وجود علم، وأضداد العلم العامة والخاصة أضداد للعقل، وهو من قولهم عقلت البعير إذا أمسكته بعقال، وبه وضع خطاب المكلفين، فإذا فقد لحق فاقده بالبهائم، ثم نقول إن إنزال الماء من السماء وهو ماء واحد المادة، فمن عقل هذا هقل وجود الإنسان من نظفة واحدة كواحدة الماء المازل من السماء، ثم يكون عن تلك النطفة شكل الإنساء، وما ينطوي عليه خلقه وتشتمل عليه جملته والمادة واحدة، فالتلاقي والشبه بين الماءين وما يوجده سبحانه عنهما أوضح شيء لمن عقل، فكيف يستبعد العودة من يشاهد ذلك أو يعتبر به.
وقد أرانا سبحانه في ماء السماء وما يكون عنه الإحياء بعد الموت ما أوضحه في قوله تعالى:(وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ... )(الروم: ٢٤) ما فيه أبين دليل لمن وفقه سبحانه للنظر والاعتبار، لا توقف فيه، وجعل ذلك متكرراً، ونبه تعالى عليه بقوله:(كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى)(الأعراف: ٥٧)، وقال تعالى:(اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ)(الروم: ٨)، وقوله تعالى:(وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(فاطر: ٩).