ووجه ذلك أن المخبر عنهم من المخلفين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم الاستغفار لهم لتخلفهم عنه، وأفردوه بخطابهم إذ ليس ذلك من مطلوبهم لغيره فوردت العبارة عن ذلك بإفراد الخطاب. وأعلم تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بنفاقهم وكذبهم في اعتذارهم فقال تعالى:(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)(الفتح: ١١).
وأما الآية الثانية فليس قولهم:(ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) خطاباً خاصاً له صلى الله عليه وسلم، بل هو خطاب له وللمؤمنين، والسياق يفصح بذلك، وما أمره به، عليه السلام، من مجاوبتهم في قوله لهم:(لن تتبعونا) فلم يرد هنا إفراده صلى الله عليه وسلم بخطابهم له كما ورد في الأولى، وجاء كل على ما يناسب.
فإن قيل: إن خطابهم له خاص كالأول ولكن خاطبوه مخاطبة التعظيم بقولهم: (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ)، قلت: وعلى (فرض) هذا فمراعاة الألفاظ في التعظيم أكيدة جداً وبها إحرازه، وعلى هذا لايلائم هنا الخطاب كيف ما قدر إلا بصورة ما للجميع، والله أعلم بما أرد.
الآية الثالثة من سورة الفتح - قوله تعالى:(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)(الفتح: ١١)، ثم قال فيما بعد:(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)(الفتح: ٢٤)، للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف الوصفين الواقع بهما ختام الآيتين وهما (خبير) في الأولى و (بصير) في الثانية؟
والجواب عنه: أنه قد تقدم قبل الآية الأولى قوله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)(الفتح: ١١) فناسب هذا وصفه تعالى بالخبير لأن الخبير هو العليم بما خفي وبطن، فتأمل مناسبة هذا لقوله:(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).
وأما الآية الثانية فتقدمها قوله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ)(الفتح: ٢٤) وليس في هذا إبطان شيء أظهر خلافه، فكان إيراد وصفه سبحانه ببصير أنسب، وورد كل على ما يجب.