أنا عابد ما تعبدون (أو ما أنا عابد) ما تعبدون؟ قلت: لم يكن كذلك لأمرين: أحدهما أنه جواب لقولهم: أعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فلما كان جوابا لفعل أتي فيه بالفعل نفياً لعين ما طلبوه ولو نفي الاسم لما كان مطابقاً لقولهم، والثاني أن الجملة الأسمية إنما نفيها بما لا بلا، وما ليست بمخلصة للاستقبال، ونفي المستقبل مقصود، فلم يكن بد مما يحرزه، فهذا ما حمل أولاً على ما عليه الكلام. وأما الجملة المنفية على هذه وهي قوله:(ولآ انتم عابدون ما أعبد) فتنبيه لما قصد تعريفهم به، إذ هي طرف معرف بحالهم بناء على ما تقدمها من بيان حاله، عليه السلام، فهي جملة جوابهم، وبناؤها على ما تخلص استقباله مغن عن الأداة المخلصة لأن حكمها حكم ما بنيت عليه، وتم بها أنه قد وقع الفعل المبهم في صلة ما وهي معمولة لاسم الفاعل المجموع الواقع خبراً عن " أنتم " ولا يعمل إلا بمعنى الحال والاستقبال، ولكن المعتمد الجوابية على ما تقرر فقد تبين أن قوله:(لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد) إخبار عما يستقبل من الزمان وعن حاله، عليه السلام، فيه وحالهم فيه أيضا. ثم قال:(ولا أنا عابد ما عبدتم) فهذا نفي لما تقدم ومضى على كفاية الحال الماضية ولهذا عمل اسم الفاعل في " ما". ولما كان الإفصاح هنا بالماضي يحرز المقصود جاءت الجملة اسمية لتحصل الماضي والحال. أما الماضي فمهوم ببنية الفعل وهو قوله (ما عبدتم) ولو لم يقع الإفصاح بالفعل لأفهم السياق ما ذكر لأنه قد تقدم ما يستقبل في حق الفريقين فلم يبق إلا ما مضى، ولا مانع من اللفظ، فتعين المقصود.
أما الحال فإن الجملة الاسمية إذا دخل عليها النفى حملت على الحال ما لم يقع في الكلام ما يقيدها بغيره، فإن قيل: التقييد بقوله: (ما عبدتم) قلت: قوله: (ما عبدتم) من صلة ما بعد حصول المبتدأ الذي هو أنا وهو اسم الفاعل، فحصل من قوله:(ولا أنا عابد) نفي اتصافه صلي الله عليه وسلم في الحال بعباده آلهتهم، وإنما الحال عندنا الماضي غير المنقطع، قال سيبويه، رحمة الله، معرفاً بما يطلق عليه اسم الحال فقال:، وهو كائن لم ينقطع، فحصل عن المبتدأ والخبر من قوله:(ولا أنا عابد ما عبدتم) الإخبار عن حالة المستمرة على ذلك فيما تقدم متصلة غير منفصلة، وحصل من الجملة الخبرية الواقعة صلة وهي:" عبدتم " أنهم لم يفعلوا ذلك فيما مضى، وقد حصل فيما تقدم استمرارهم على ذلك حال الإخبار، وزيد بياناً وتأكيداً لقوله بعد:(ولا أنتم عابدون ما أعبد) وقد حصل أيضا فيما تقدم أن تلك حالهم فيما يستقبلونه، فيحصل المجموع أنه صلي الله عليه وسلم تبرأ من عبادة آلهتهم فيما مضى وفي الحال وما يأتي، (وأنهم ما عبدوا الله كما يجب له سبحانه فيما مضى ولا في الحال ولا يفعلون ذلك فيما يأتي)،